التراشق بالقنابل النووية

تناقلت مواقع إعلامية عن ثعلب السياسة الأميركية العجوز هنري كيسنجر قوله “إذا لم تكن تسمع طبول الحرب فأنت أصم بلا شك”. الحرب قائمة بالفعل، ولكن كيسنجر يشير إلى حروب دول تستخدم فيها جميع أصناف الأسلحة من أحدث جيل.

فالأزمات السياسية التي تضرب العالم مهَّدت بالفعل لحروب لا يبدو أن أحدا يعمل بجد من أجل تجنبها، فها هي بوادر حرب باردة جديدة بين روسيا والغرب لا يمكن تجاهلها، كما يتصاعد التوتر بين الصين وأمريكا وتبادل الإجراءات العقابية في الحرب التجارية بينهما، وأيضا أنتج القتال في سوريا سلسلة من المواجهات المعقدة على مستوى العالم، بما في ذلك بين حلفاء الناتو مثل تركيا والولايات المتحدة التي تجد نفسها على طرفي نقيض من حرب للسيطرة على المناطق الكردية.

إبان هذا المشهد العالمي بالغ التعقيد بات الشيء المخيف ليس مدى السرعة التي تتصاعد بها التوترات بين القوى العظمى، ولكن أيضا تشابك التحالفات والمواجهات، فتجد بعض البلدان نفسها حلفاء على جبهة واحدة وأعداء على جبهة أخرى، ومن غير المستغرب أن يقارن العديد من المؤرخين الوضع العالمي الحالي بالتحالفات المعقدة والعداوات بين القوى الامبريالية الأوروبية التي بدأت الحرب العالمية الأولى.

في العقود السابقة، كان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منصة لحل الأزمات الجيوسياسية، لكنه تحول الآن إلى مجرد ساحة نراقب فيها ممثلين عن القوى العظمى يتبادلون الشتائم، فاللغة بين الروس والأميركيين هناك مثيرة للانتباه بشكل خاص لأن كل طرف يحرص على إلقاء أقوى العبارات وربما أقذرها في وجه الطرف الآخر متهما إياه بالكذب والخداع والتضليل وزعزعة الاستقرار العالمي.

جزء من هذه المشكلة العالمية ظهور الزعماء السلطويين مثل بوتين وترامب وأردوغان، هذه الشخصيات تشترك في حب اللغة التصادمية، لأنها تقدم نفسها كقوة صلبة لا تتراجع أبداً، مثل الأطفال في ملعب المدرسة الذين لا يمكنهم تجاهل الإهانة، رأينا ذلك مثلا في السجال الذي حصل بين ترامب وكيم جونغ أون عندما حرص كلاهما على كيل أكثر الإهانات صبيانية للآخر، ولا سيما ترامب الذي افتخر –عبر تويتر- بأن زرَّه النووي أكبر!.

وهكذا نرى هذه العقلية القبلية تنبثق في جميع أنحاء العالم حيث يتورط الجميع في مواجهات لا تثبت أي شيء بخلاف من هو الأقوى أو الأقل رغبة في التراجع. في القرن العشرين كانت المواجهات العظيمة غالبًا على أيديولوجيات: الرأسمالية والشيوعية والقومية، لكن اليوم تظهر بوادر حرب عالمية اليوم وكأنها مجرد اختبار لمن يملك أفضل الأسلحة.

وغني عن القول إن هذا يتركنا في عالم خطير للغاية حيث يمكن أن تندلع حروب هائلة بدون غرض واضح، مع آليات عالمية لحفظ السلام إما مشلولة أو تلعب دورا مساهما في تصاعد التوترات.

الشيء المستغرب هو أن مواطني تلك الدول لم يكونوا أبدًا أقل تأييدًا لخوض الحرب أو الانخراط في المواجهات في الخارج مما هم عليه الآن. لقد كانت الضربات الأمريكية والبريطانية والفرنسية ضد منشآت الأسلحة الكيميائية السورية في الأسبوع الماضي عملية محدودة للغاية انتهت قبل أن نعرفها، ولغرض واضح وهو منع الأسد من استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، إلا أن غالبية المواطنين في هذه الدول عارضوا تلك الضربات.

المعارضة العامة لمثل هذه الأعمال متجذرة بقوة في خوف الغرب من تكرار الأخطاء التي ارتكبت في العراق وأفغانستان، والتورط في نزاع أجنبي باهظ الثمن لسنوات عديدة، وفي الواقع تم انتخاب دونالد ترامب على أساس وعوده بـ “جعل أميركا عظيمة مرة أخرى” والتراجع عن المواجهات والواجبات في الخارج، ومع ذلك أدلى أسلوب قيادته الأرعن أدى إلى زيادة التوتر حتى مع الحلفاء الأميركيين التقليديين.

جزء آخر من المشكلة يكمن في أن قادة مثل بوتين يرتكزون في شرعيتهم على هندسة المواجهات الأجنبية من أجل إقناع مواطنيه بأن “العالم كله ضدنا وكل ما أفعله هو من أجل حمايتك”، كما أن النظام في طهران يعيش من خلال نظرة عالمية مشابهة، وهو يخاف من انتفاء الحاجة له وانهياره إذا أصبحت إيران دولة طبيعية تعيش في سلام مع جيرانها.

يدرك معظم الناس الحكماء في العالم العربي أن الإيرانيين العاديين ليسوا أعداء لنا، فقبل بضعة أشهر فقط رأينا متظاهرين شجعان يخرجون إلى شوارع المدن ويصفون خامنئي بالدكتاتور وينددون بإهدار المال العام في الصراعات في الخارج.

إن المواجهات السياسية تضر بنا بطرق كثيرة: الحروب التجارية، والعقوبات الاقتصادية، والمقاطعة، وإنفاق الأموال على العتاد العسكري بدلاً من الخدمات العامة، وحتى لو تجنب الطرفان فعليًا الحرب المباشرة إلا أنه غالباً ما تؤدي الرغبة في الظهور بقوة على المسرح العالمي إلى إفقار المواطنين العاديين، الذين غالباً ما يرون زيادات ضريبية حادة لدفع ثمن سباق التسلح الذي تتبناه أنظمتهم الحاكمة.

العالم لا يحتاج إلى قادة يسوقون بلادهم عن قصد أو غير قصد إلى الحرب، نريد قادة يحددون أولويات الرفاه الاقتصادي لمواطنيهم، وعندما تفرض الصين وأمريكا تعريفة ثقيلة على السلع المستوردة، فإن النتيجة هي زيادة هائلة في الأسعار وانخفاض حاد في مستويات المعيشة، وبدلاً من ذلك يتعين على هذه الأمم أن تجلس معاً وتضع شروطاً تجارية لصالح جميع المواطنين.

ترامب رجل أعمال، ومن المفترض أن يكون أكثر الناس إداركا للأثر السلبي للتوترات السياسية على بيئة الأعمال، كما ينبغي على الروس العاديين أن يقوموا بحملة ضد سياسات المواجهة التي تضر بعلاقات روسيا الاقتصادية مع بقية العالم.

إن المستويات الحادة لعدم المساواة الاقتصادية في معظم البلدان حول العالم تعني أن العائلة الأمريكية والصينية والإيرانية والروسية تكافح من أجل تغطية نفقاتها من أسبوع إلى آخر، فيما هي تتطلع لتحقيق أولوياتها في تعليم أفضل وأسعار أرخص لسلع أساسية أفضل وفرص عمل أفضل ورعاية صحية ميسورة التكلفة.

القادة الذين يضعون المواقف الفارغة والمجد العسكري قبل تلك الأولويات الأساسية لا يخدمون مواطنيهم، بل يستحقون الخروج من السلطة بطريقة أو بأخرى، و دعونا نأمل أن يواجه هؤلاء الرجال الأقوياء عواقب خطبهم الحماسية الطنانة ونواياهم القتالية، قبل أن يأخذونا جميعًا إلى الجحيم!.

 

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s