حتفل العالم هذا العام بمرور 100 عام على ولادة الاقتصادي الأمريكي الشهير والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ميلتون فريدمان، ونستذكره في هذا المقال بوصفه أحد أكبر مُنظِّري “الاقتصاد الحر”، ولو أن فريدمان بيننا الآن لكان سيثير استغرابه بلا شك تصرفات ترامب غير الحصيفة بشأن إشعال حروب تجارية وتهديد النمو الاقتصادي العالمي.
يتحدث فريدمان في برنامج تلفزيوني في ثمانينات القرن الماضي ممسكا بيده قلم رصاص عن قصة صناعية معقدة تقف خلف هذا القلم على الرغم من بساطته، فالخشب أنتج في مكان، والطلاء في مكان، والتصنيع جرى في مكان ثالث، وهناك من نقل القلم إلى أسواق التجزئة، وصولا إلى متجر صغير يعرض القلم للبيع ويبعد ربما آلاف الكيلومترات عن أماكن انتاج المواد الداخلة في صناعة هذا القلم، ويصل فريدمان إلى نتيجة هي ضرورة تكاتف جهود آلاف الناس الذين ربما لا يعرفون بعضهم البعض في عملية انتاج وتسويق هذا القلم البسط.
لكن، وفي مرحلة من التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العالمي، بدا العالم يتجه عائدا نحو التقوقع، فتصاعد اليمين المتطرف والنزعات القومية، وأدى ذلك إلى وصول أشخاص مثل دونالد ترامب إلى رأس السلطة.
ترامب، التاجر، وجل الأعمال، يقود الولايات المتحدة الأمريكية بذات العقلية التي يدير بها شركاته: تحقيق أٌقصى عائد من الربح السريع وإزاحة الآخرين من الأسواق أيا كانوا، مُطلقا بذلك رصاصة الرحمة على آخر آمل معلق على دور الولايات المتحدة في قيادة العالم، كل العالم، نحو السلم والازدهار.
إن إدارة دونالد ترامب الآن تخطو خطوة أخرى على طريق إضعاف علاقاتها مع شركاء واشنطن من خلال فرض رسوم تصل إلى 25 في المائة على واردات الألمنيوم والصلب، في خطوة أرغمت الأوروبيين والصينيين والكنديين والقوى الكبرى الأخرى على التفكير باتخاذ تدابير انتقامية ضد البضائع الأمريكية المميزة مثل الجينز والسيارات والدراجات النارية هارلي-ديفيدسون!.
هل يريد السيد ترامب إدخال العالم المرهق بالإرهاب والتحديات في أزمات اقتصادية جديدة؟. لقد تسببت الحواجز التجارية بين الدول في ثلاثينيات القرن الماضي بكساد كبير أدى بدوره إلى إفقار شرائح واسعة من الشعوب ومهد لصعود أدولف هتلر إلى السلطة والحرب العالمية الثانية التي قتلت أكثر من 60 مليون انسان. أليس هذا حجة دامغة تؤكد ضرورة التمسك بالاقتصاد الحر وعدم فرض تعريفات جمركية؟
عندما سقط جدار برلين في العام 1990 كنت حينها في ألمانيا، ورأيت بنفسي مدى الفرح الذي عم الألمان هناك، وتابعت في السنوات التالية كيف تمكنت ألمانيا من إعادة بناء ذاتها اقتصاديا، وكيف كانت السند الدائم لكل أوروبا، تصدر بضاعتها ذات الجودة الفائقة للعالم، وتؤكد التزامها بمسؤوليتها تجاه برامج التنمية الدولية.
إن الحروب التجارية تتصاعد بسرعة وتؤثر سلبا على جميع الأطراف، وربما تضر دولا ليس لها علاقة بالنزاع التجاري، وإن منطق ترامب بشأن التعريفات الجمركية هو من بقايا القرون السابقة، وفي الواقع لقد حذره معظم أعضاء الحزب الجمهوري ووزرائه الرئيسيين من مغبة السير في هذا الطريق، مع العلم أن التأثير التراكمي سيؤدي أولاً وقبل كل شيء إلى الإضرار بالمستهلكين الأمريكيين وأصحاب الصناعات الثقيلة.
إذا أخذنا حالة الألومنيوم نرى أن الإنتاج الأمريكي انخفض منذ ثمانينات القرن الماضي من 4.6 إلى 1.6 مليون طن، وهكذا فإن واردات الولايات المتحدة من الألومنيوم الخام تلبي الآن 90 في المائة من الطلب المحلي، وهذا ليس بسبب الألمنيوم البحريني الرخيص الذي يغمر السوق، ولكن لأن صناعة الألمنيوم المحلية في الولايات المتحدة أصبحت متأخرة وغير فعالة وغير منتجة، ومع اعتماد الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير جدا على الواردات الأجنبية ستواجه الصناعات الأمريكية التي تعتمد بشدة على الألمنيوم والصلب المستورد التأثير المعيق لهذه الزيادات الوحشية في الأسعار.
تعتبر البحرين سادس أكبر مصدر للألمنيوم في العالم، ويشكل إنتاج المملكة من الألمنيوم نسبة 20% من نحو 500 ألف طن من الألمنيوم تصدرها دول مجلس التعاون الخليجي للخارج سنوياً، كما يمثل الألمنيوم أحد أهم مصادر الدخل الوطني البحريني خاصة خلال الفترة التي انخفضت فيها عائدات النفط بشكل كبير، ومع اعتماد الولايات المتحدة بشدة على واردات الألومنيوم فإنه من الواضح لماذا تعتبر أمريكا والبحرين شريكين تجاريين طبيعيين.
ربما لا يفكر ترامب في البحرين إطلاقا عندما يقرر اتخاذ اجراءات لحماية مصنعي الألمنيوم في الولايات المتحدة، لكن كبار السياسيين والخبراء الأمريكيين حذروا من الضرر المحتمل لأقرب حلفاء أمريكا، وقد كانت دول مجلس التعاون الخليجي شريكًا أساسيًا في الحرب ضد داعش، لا سيما مع موقع الأسطول البحري الأمريكي في البحرين، وهذه الدول نفسها تقف في خط المواجهة ضد طموحات إيران التوسعية.
وتمثل التعريفات الجمركية الجديدة لترامب إعلان حرب ضد معظم الشركاء والحلفاء الأقرب لأمريكا، ومن المفارقات أن الدول الأقل ضررًا بتلك القرارات هي إيران وكوريا الشمالية!. وإن الإضرار باقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية سيؤدي إلى تغذية البطالة وتقليل مستويات المعيشة، مما يقود إلى مناخ يغذي التطرف والمواقف المعادية للغرب، ويتمتع ترامب بالادعاء بأنه صارم ضد الإرهاب، ولكن من خلال كونه قاسياً على التجارة، فإنه يخاطر بخلق بيئة مثالية لإحداث أجيال جديدة من الإرهابيين.
يبدو أن أمريكا بالفعل تتفاوض مع الكنديين والمكسيكيين وغيرهم بشأن التخفيف من آثار هذه الإجراءات، وبما من المفيد لنا في البحرين القيام بجهود مماثلة لضمان عدم تأثر اقتصادنا سلبا بقرارات ترامب التجارية الجديدة.