السياسات الشعبوية تفقر الشعوب

الاقتصاد في اللغة مشتق من كلمة “القَصدَ”، والتي تعني الوسط بين الطرفين، والقَصد: في الشيء خلاف الإفراط، وهو ما بين الإسراف والتقتير، والقصد في المعيشة ألا يسرف ولا يُقتّر، والأشخاص الناجحين الذين أعرفهم يتدبرون أمورهم المالية بعناية فائقة، أما جماعة “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” فهؤلاء أفلسوا منذ زمن بعيد.

ومفهوم “القَصد” يصح على الأفراد، وعلى الحكومات أيضا، وربما يكون أسوأ أنواع القادة هم أولئك الذين يحاولون أن يفعلوا بالضبط كل ما يريده الجمهور منهم، فمن السهل جدا أن تكون تحظى بشعبية جارفة لفترة قصيرة، وذلك من خلال أمر بسيط: فتح أبواب خزينة الدولة وإغداق الأموال على الأنصار ومشاريعهم المفضلة.

بتلك الطريقة كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يحكم بلاده، يسافر في جميع أنحاء البلاد معلنا سلسلة من المشاريع المهيبة، وافتتاح مصانع، وبناء جسور، ثم إعطاء العقود المربحة لحلفائه المقربين، وبهذا رسم لنفسه أمام جمهوره –لفترة من الوقت-صورة الرجل القادر على الإنجاز، والمحافظ على وعوده في مساعدة الفقراء، والموفر لفرص العمل والأعمال للجميع!

ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن تفرغ خزانة الدولة، وتتعطل سلسلة من المشاريع الحيوية في الكثير من المحافظات، في حين ارتفع الفساد المؤسسي، واستفاد الحرس الثوري بشكل خاص من تلك الأوضاع، واغتنم الفرصة ليصبح لاعبا اقتصاديا ضخما بعد أن فاز بعقود كبيرة يسيل لها اللعاب، واليوم نحن جميعا ندرك جيدا كيف استثمر الحرس الثوري هذه الأموال التي تعيث فسادا في المنطقة.

نجاد باعتماده سياسات الإنفاق المرتفع سار على خطى العديد من القادة الآخرين في الدول النامية، وخاصة سلسلة من الحكام المستبدين في أمريكا اللاتينية مثل صديقه المقرب الراحل هوغو تشافيز، فالوسيلة الشائعة لتمويل السياسات الشعبوية باهظة التكلفة كانت مجرد طباعة المزيد من الأموال، وهو ما أدى على نحو متوقع إلى حدوث تضخم هائل في العملة وخفض قيمتها.

فيما تعتمد دول أخرى على قروض ضخمة تتراكم بسرعة حتى تصبح تلك الدول عاجزة حتى عن سداد فوائد الديون. في اليونان مثلا أدت أزمة الديون إلى سقوط البلاد في سنوات من التقشف المرير، ومحاصرة حتى الطبقات المتوسطة في نفق فقر لا نهاية له على ما يبدو، كما تعثرت الأرجنتين في العام 2001 عن سداد ديونها، ما أدى إلى تجميد وضع البلاد في الأسواق المالية العالمية حتى أرغمت في نهاية المطاف على القيام بإعادة هيكلة مؤلمة والبدء في سداد هذه الديون.

المثير للدهشة أن الولايات المتحدة هي آخر عضو جديد في هذا النادي من البلدان التي تقترض وتنفق بكثافة، ثم تتعرض للعواقب الوخيمة، ففي أواخر كانون الأول / ديسمبر الماضي تم الاتفاق على مجموعة ضخمة من التخفيضات الضريبية، التي استفادت منها الأعمال التجارية الكبيرة والأثرياء أكثر من الطبقات المتوسطة، وسرعان ما أعقبت هذه التخفيضات الضريبية مشروع قانون لزيادات هائلة في الإنفاق العام بقيمة 400 مليار دولار، يستفيد منها الجيش على وجه الخصوص، ويسعى ترامب إلى الحصول على مليارات إضافية لتمويل جداره مع المكسيك ومشاريع البنية التحتية التي وعد بها كمرشح. إن النفقات الإضافية المقترنة بالتخفيضات الضريبية تدفع الدين الأمريكي إلى 1.5 تريليون دولار تقريبا!.

المفارقة هي أن هذه القوانين جرى تمريرها من قبل الحزب الجمهوري نفسه الذي كان سعى مرارا إلى تعريض حكومة أوباما لشلل مالي مؤقت بذريعة خفض الإنفاق، في وقت يمكن لأي طالب اقتصاد مستجد أن يؤكد أن أوباما كان محقا في رفع مستويات الإنفاق العام خلال الأزمة الاقتصادية العالمية بهدف دفع الاقتصاد إلى الخروج من الركود؛ ولكن عندما يبدأ الاقتصاد في النمو مرة أخرى، فإن هذا هو الوقت المناسب لخفض الإنفاق وتحقيق التوازن، بحيث تتوفر لدى الدولة احتياطيات مالية كافية للتعامل مع الأزمات الاقتصادية التي لا مفر منها في المستقبل.

حزب ترامب الجمهوري يلغي من جانب واحد هذه العقيدة الاقتصادية “المعاكسة للدورات الاقتصادية” والتي تتبعها معظم الاقتصادات الغربية المتقدمة على نطاق واسع منذ الحرب العالمية الثانية، والأكثر من ذلك أن الإنفاق الإضافي الهائل يؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة أمريكا إلى الركود – وهو أمر ينتشر حتما تقريبا في الاقتصاد العالمي. وفي الأسابيع القليلة الماضية، أدى انهيار مفاجئ في أسواق الأسهم الأمريكية إلى تراجع أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم.

وفي حين أن تراجع أو انهيار الاقتصادات الأرجنتينية أو اليونانية أو الفنزويلية لن يكون له تأثير يذكر علينا في دول مجلس التعاون الخليجي؛ أظهرت لنا الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2007 كيف يمكن لعواقب السياسات الاقتصادية الأمريكية المتذبذبة أن تؤثر على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، واعتقد أنه من الحكمة أن نتابع التطورات الاقتصادية في أمريكا والقوى العالمية الأخرى عن كثب حتى نتمكن من الاستعداد لكيفية تأثير هذه السياسات علينا.

هذه الرؤى ذات أهمية خاصة بالنسبة لنا هنا في البحرين، فقد اتخذت الحكومة موقفا عقلانيا من مطالب رفع مستويات الإنفاق والأجور، وذلك في إطار مساعيها للحد من تفاقم عجز الموازنة والدين العام الذي وصل حاليا لنحو عشرة مليارات دولار، لكنها تمكنت في الوقت ذاته من الحفاظ على مستويات عالية من الدعم على السلع الأساسية.

لا تريد حكومتنا مواجهة السيناريو الأرجنتيني أو اليوناني، فبادرت بعد انهيار أسعار النفط في العام 2014 إلى اتخاذ جملة من إجراءات التقشف أو ما سمي بـ “إعادة توجيه الدعم”، واتخذت العديد من المبادرات في هذا المجال كانت مجدية إلى حد ما، ولكنها كانت مفيدة جدا في أنها شكلت جرس إنذار لنا جميعا مفاده أنه لا يمكننا العيش في بحبوحة وتبذير إلى الأبد.

إذا كان الحاكم السيئ يسعى للحصول على شعبية سهلة من خلال إعطاء الناس كل ما يريدونه الآن وتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم مع الفقر والذل في المستقبل، فإن الحكام الجيدين لديهم الشجاعة لمواجهة شعبهم بالحقيقة واتخاذ القرارات الصعبة التي تضعنا جمعيا على المسار المستقبلي الواعد.

نحن نميل لأن نكون أكثر استقرارا واطمئنانا مع استمرار القطاع الخاص في الازدهار والحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي خاصة في القطاع غير النفطي، مع جملة من مشاريع تحفيز الاقتصاد، وأعتقد أنه يجب أن نكون ممتنين جدا للقائمين على القرار الاقتصادي لدينا هنا في البحرين.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s