بدأت في الآونة الأخيرة تتضح أكثر إمكانيات النمو الكبيرة التي تتمتع بها قطاعات عديدة في الاقتصاد الوطني، مع تسارع التوجه نحو الاستفادة من امتيازات البحرين الاقتصادية كقربها من السوق السعودي وتوفر الكوادر الوطنية المؤهلة والتشريعات التجارية المتقدمة والتمسك بمبدأ الاقتصاد الحر، ونشهد حاليا خطوات ملموسة لتحويل البحرين لمركز تكنولوجيا معلومات متقدم في المنطقة، كما أننا بدأنا نحصد ثمار الاستثمار المستدام في قطاع السياحة والتوجه نحو جعل البحرين مركز إقليمي للأنشطة الترفيهية.
رغم ذلك نحن جميعا ندرك تماما أن البحرين مرت بفترة صعبة اقتصاديا وسياسيا، ونحن على يقين بأننا أصبحنا أكثر قدرة على تجاوز المراحل الصعبة، إلا أنه لا يزال هناك عدد من العقبات والتحديات الكبيرة جدا التي تشكل مصدر قلق والتي تتطلب استراتيجية موحدة واضحة يعمل الجميع من خلالها وتمكننا من تعزيز الازدهار وبناء المستقبل المنشود.
فأنا كمستثمر ومواطن تنتابني مشاعر القلق إزاء التحديات الاقتصادية الراهنة، أنا قلق بالفعل إزاء تسارع كتلة الدين العام الذي تجاوز العشرة مليارات دينار مؤخرا، فيما التقارير تشير إلى أن البحرين ستضطر إلى استدانة خمسة مليارات أخرى خلال هذا العام فقط، وأنا قلق كذلك من الزيادات المستمرة في الرسوم وكذلك الضرائب التي لم نتعود عليها في هذه المنطقة من العالم.
أنا قلق أيضا إزاء عدم إحراز التقدم المنشود في ضبط النفقات الحكومية والحد من المصاريف المتكررة، واستمرار الهدر والتجاوزات كما أشار التقرير الأخير لديوان الرقابة المالية، واضطرار الحكومة إلى رفع أسعار الطاقة أكثر من مرة دون أن يقترن ذلك بتعويض مجزي للمواطنين، وقلق من حالة الاستهتار واللامبالاة التي ألمسها لدى بعض المسؤولين ولدى شريحة ليست قليلة من المواطنين أيضا الذين لا زالوا يعتقدون أن الحكومة مسؤولة بشكل كامل عن تعليمهم وتوظيفهم وإسكانهم وتقديم العلاج لهم في ظل الاقتصاد الريعي غير القائم على الإنتاجية.
اعتقد أن الجميع يشاركني مشاعر هذا القلق المشروع، لكن الصورة ليست قاتمة إلى هذه الدرجة، وأنا كرجل أعمال لدي مكاتب في جميع الدول العربية وأنشطة تجارية في دول مختلفة حول العالم أؤكد أن الاقتصاد العالمي كله تقريبا يكافح من أجل تحقيق معدلات نمو مقبولة، ويجب أن أقول إن مشاعر القلق المشروع لدي على اقتصاد البحرين تختلط بكثير من مشاعر التفاؤل.
فقد بدأنا نرى في الآونة الأخيرة مزيدا من التناغم بين الكيانات المسؤولة عن توجيه دفة الاقتصاد الوطني والنهوض به، نرى الآن كل من وزارة الصناعة والتجارة ومجلس التنمية الاقتصادية وصندوق العمل “تمكين” وبنك البحرين للتنمية وغيرها تعمل في جو من التكامل والتناغم، يدعمها بذلك باقي وزارات وهيئات الجهاز الحكومي التي تتحمل جمعيها بشكل أو بآخر مسؤولية تحفيز الاقتصاد الوطني.
أعطي مثالا على ذلك إطلاق “مجلس تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة” الذي تقع على عاتقه مسؤولية رسم خطة وطنية متكاملة للنهوض بتلك المؤسسات التي تمثل أكثر من 95% من الاقتصاد الوطني. وأنا اعتقد بالفعل أن ما يقوم به مجلس التنمية الاقتصادية برئاسة سمو ولي العهد من جهود بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية مهم جدا خاصة في هذه الأوقات الصعبة، وقد تمكن المجلس بالفعل من استقطاب شركات عالمية كبرى مثل مونديليز الأمريكية لصناعة البسكويت، وشميدت الألمانية للوجستيات، وRMI لصناعة أنابيب النفط.
وأود أن أخص بالذكر هنا شركة أمازون لخدمات الانترنت التي مثَّل اختيارها البحرين مقرا إقليميا لها قصة نجاح باهرة تواكب التوجه البحريني نحو بناء اقتصاد معرفة، وهذا بالضبط ما نحتاج إليه نتيجة لتوفر قوى بشرية بحرينية خبيرة ومدربة إضافة إلى وجود بنية اتصالات تحتية متقدمة جدا وتشريعات عصرية، مع إقرارنا في الوقت ذاته أن ندرة الأراضي الصناعية وصعوبة توفير الغاز –حاليا على الأقل- وعدم قدرة المنافذ الحدودية على تلبية الحاجة المتزايدة لاستيراد المواد الخام وتصدير المنتجات الثقيلة جمعيها عوامل تمثل تحديا كبيرا أمام قيام صناعات كبرى.
الحديث عن اقتصاد المعرفة لا يعني فقط صناعة المعلومات والاتصالات وتطبيقات الهاتف الجوال مثلا، وإنما يعني أيضا ما يمكن تسميته “رقمنة” الصناعات التقليدية، وأهمها بالنسبة لنا صناعة النفط، وتعظيم الاستفادة من هذا المنتج من خلال التوسع في تطبيقاته في مجالات الصناعة والزراعة وغيرها.
تبقى السياحة هي نفط البحرين القابل للمزيد من الاستكشاف والتطوير، وما يدعو للتفاؤل هنا هو ارتفاع مساهمة قطاع السياحة في الناتج الوطني إلى أكثر من 7% مع نهاية العام الفائت، فيما من المرتقب أن تسهم الجهود المبذولة على صعيد تفعيل مكاتب الجذب السياحي الخارجية والمشاركات الدولية والمزيد من المهرجانات والفعاليات الوطنية في جذب المزيد من السواح.
قطاع التجارة جيد بشكل عام، هناك شركات تخرج من السوق مقابل شركات تدخل إليه، وهذه حالة طبيعية، ولا شك أن منح 17 ألف سجل تجاري 500 من بينها افتراضي خلال العام الماضي فقط إنما يؤشر على أن هناك حراك اقتصادي نشط.
أنا متفائل أيضا بالمشروعات الاقتصادية الكبرى مثل مشروع تطوير مطار البحرين ليستوعب 14 مليون راكب سنويا، ومشروع مرفأ الغاز المسال، ومشروع الخط السادس في (ألبا) ومشروع مدينة المعارض الجديدة، ومن المقرر الانتهاء من هذه المشاريع جمعيها مع نهاية العام 2019 وبداية العام 2020.
دعونا نتفاءل ونقول إننا تمكنا من التكيف مع الأوقات الاقتصادية الصعبة بنجاح إلى حد ما، فقد تمكنا من ضبط معدلات البطالة والتضخم والفوائد البنكية في حدودها المقبولة، وتحقيق أرقام نمو اقتصادي تجاوزت الـ 2.5%، أيضا يجب القول إن أسعار النفط الآن تتحسن بشكل جيد، والأوضاع الاقتصادية لدى اشقائنا الخليجيين صحَّحت مسارها والمملكة العربية السعودية أعلنت عن أكبر ميزانية في تاريخها، والخير في السعودية يعم البحرين بالتأكيد.
لنصبر عام أو عامين إضافيين، ونستثمر هذه الأوقات في إعادة تصميم نماذج الأعمال لدينا بما يواكب الطفرة الاقتصادية التي بدأت معالمها تلوح بالأفق، ولنتمسك أكثر بهذه الأرض والاستثمار فيها، والأهم من ذلك كله أن نكون قد تعلمنا الدرس الأزلي الذي يلقننا إياه النمل عندما يعمل بجد واجتهاد في موسم الحصاد حتى يدخر لباقي المواسم.