في كل مرة نقف على مشارف سنة جديدة نستحضر شريط ذكريات العام الماضي، ونسأل أنفسنا هل حققنا ما كنا نطمح إليه أم لا، ونطلع إلى تحقيق المزيد من الإنجازات، في مجالات العمل والتعليم والثقافة والصحة والترفيه وغيرها.
لكننا لا نستطيع بطبيعة الحال أن نفصل توجهاتنا الشخصية المستقبلية وطموحاتنا عن الأوضاع العامة في البلد الذي نعيش فيه، وأفق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقدرة القيادة السياسية والحكومة على تعزيز الأمن وتنمية الاقتصاد وتحقيق الرفاهية للمواطنين.
ها نحن نطوي صفحة العام 2017 ونستقبل العام الجديد فيما أوضاع الأمة العربية ليست على ما يرام، بل هي سيئة جدا، في ليبيا وسوريا والعراق ولبنان، وطبعا في فلسطين، ولقد اتسع جرح النكبة والنكسة وبات أكثر نزفا في كثير من بقاع الوطن العربي، وتشتت اتجاهات البوصلة أكثر، وضاعت معالم المعركة التي يتوجب علينا التحضير لها. لقد وقعت البقرة وكَثُرَ ذبَّاحيها.
لكننا يجب أن نحمد الله تعالى على أن أراضٍ في هذا الوطن العربي لا زالت تنعم بالاستقرار، وتتوفر فيها شروط النهوض والتنمية، من بينها دول الخليج العربي، ومملكة البحرين، البلد الذي نعيش فيه وننتمي إليه.
اعتقد أن سر قوة البحرين هو حكمة جلالة الملك المفدى والقيادة الرشيدة وفهم جلالته العميق للتوازنات الدقيقة التي يجب الحفاظ عليها في تركيبة المجتمع البحريني، وإتاحة مجال واسع للحرية المسؤولة التي تنظمها أطر دستورية وتشريعية وقانونية واجتماعية، رسم معالمها المشروع الإصلاحي لجلالته، ثم تكرست في ميثاق العمل الوطني والدستور.
ولعل أهم ما استرعى انتباهي في السنة الماضية، هو تشديد جلالة الملك ضرورة الفصل بين السياسية والدين، فالسياسة مصالح، والسياسة وجِدت لتخدم الإنسان في حياته اليومية وليس كي يخدمها الإنسان، أما الدين فهو للروح، ولن يستطيع رجلي السياسة والدين الالتقاء في قيم واحدة.
كتاب الله كتاب واحد والدين واحد، أما السياسة فمتغيرة، ورجل السياسية الأشهر عالميا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل يقول: ليس لنا أصدقاء دائمون، ليس لنا أعداء دائمون، لنا مصالح دائمة.
إن النهج الذي رسم معالمه جلالة الملك ينم عن إدراك شامل بأن الدين لله والسياسة لعباده، فالله سبحانه وتعالى مصدر قوتنا، حي قيوم لا يتغير ولا يتبدل، أما كل من دخل في السياسة فهو متغير متبدل وفقا لتغير وتبدل الظروف، يخفي حقائق ويكذب في حقائق أخرى، ونحن نتفهم أن هذا أمر طبيعي، لأننا في حياتنا اليومية والعملية يجب أن نتماشى مع الظروف التي تطرأ علينا ومستجدات الأوضاع من حولنا.
لقد نص الدستور في مادته الثانية على أن دين الدولة الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، وفي المادة (6) على أن تصون الدولة التراث الإسلامي، وفي البند (ب) من المادة (7) على رعاية التربية الدينية في مختلف مراحل التعليم وأنواعه، وأنا اعتقد أن هذا أمر جيد بل ومطلوب في إطار الحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية السمحاء.
لكن الدستور لم يقل إن “الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي والوحيد للتشريع”، بمعنى أنه ترك الباب مواربا أمام مصادر أخرى وضعية، وهذا ضروري لبلد مثل البحرين يعيش فيه أتباع الأديان السماوية وغير السماوية بتآلف وتسامح ومحبة منذ آلاف السنين.
أعجبني تصريح وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية د. أنور قرقاش خلال مشاركته مؤخرا في حوار المنامة قال فيه إن الإمارات العربية المتحدة ليست دولة سنية، وإنما دولة علمانية.
إن من يريد إصباغ صفة دينية واحدة على دولة تتبنى نهج الحضارة والتقدم جنبا إلى جنب مع تمسكها بقيم الشريعة الإسلامية السمحاء، إنما يزرع فيها بذور التفرقة والخلاف والانفجار، ويريد القضاء على منجزاتها عبر تأليب شرائح المجتمع بعضها على بعض من خلال دق الإسفين الطائفي بينها.
إن أوربا لم تستطع الخروج من ظلمات العصور الوسطى إلا بعد أن فصلت الدين عن السياسة، بكلمات أخرى فصلت الدين عن الدولة، ووضعت خلفها محاكم التفتيش الرهيبة التي كان الإنسان يحرق فيها لمجرد اختلافه الديني.
ولننظر أيضا إلى اليهود الذين نجحو بعد تبنوا العلم والاقتصاد والتفوق قبل كل شيء، وأصبح فهمهم للدين فهما واقعيا، ولم يتحجروا ولم يخرجوا عن العالمية ولم يتكلموا لغة مختلفة عن البلدان التي يعيشون فيها، وإنما اندمجوا وتفاعلوا مع غيرهم وتمكنوا من كسب التعاطف العالمي، لكنهم عندما تجمعوا في فلسطين وبدأوا خلال السنوات الأخيرة يعملون على كسب اعتراف عالمي بإسرائيل كدولة يهودية بدؤوا يخسرون مكتسباتهم، وما تصويت معظم دول العالم مؤخرا في مجلس الأمن ضد قرار ترمب بشأن القدس إلا دليل على ذلك.
في السنة الجديدة ستكون البحرين على موعد مع استحقاقين انتخابيين يجسدان معالم الديمقراطية التي تنعم بها البحرين في إطار الملكة الدستورية، الحدث الأول هو انتخابات غرفة الصناعة والتجارة التي ستجري في مارس، والآخر هو انتخابات مجلس النواب المرتقبة في أكتوبر، وهاتين فرصتين مهمتين لنبرهن جميعا على مدى نضجنا الديني والسياسي معا، وأننا أصبحنا بالفعل قادرين على التمييز بين الدين والسياسية والاقتصاد، ولا نسمح لأحد بأن يضحك علينا مجددا باسم الدين والطائفة فيما هو يتبنى مصالح شخصية ضيقة.
ديسمبر
30
2017