عالم من الحدود المفككة

من الصعب على الأكاديميين الذين يجلسون في مكاتب مريحة في الغرب أن يتخيلوا العالم دون الحدود المألوفة بين دوله، لكن هذه النظرة التقليدية تتغير الآن أمام أعيننا.

العالم الذي نعرفه اليوم تشكَّلت الحدود بين دوله بعد الحرب العالمية الثانية، مع قيام الأمم المتحدة بدور الحاكم الأعلى للدول وحاميتها، لذا كان هذا النموذج الجيوسياسي مطلقا وناجحا جدا، لكن معظمنا ينسى أن هذا النظام العالمي هو اختراع جديد حديث العهد، ففي الماضي القريب كانت حتى الدول الناضجة في أوروبا الغربية تخوض حروبا طاحنة وترسم بالدماء حدودا متحركة مع جيرانها، والصراعات الكارثية التي وقعت في القرن العشرين هي وحدها التي أقنعت هذه الدول بالتعايش والشروع في التجربة المعروفة الآن باسم الاتحاد الأوروبي.

عادة ما لا تعكس الخرائط المعاصرة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حقيقة أن العديد من هذه الدول نادرا ما توجد ككيانات متماسكة، والمثال الأكثر وضوحا هنا هو سوريا التي تنقسم حاليا بين العديد من الكيانات المتنافسة بشدة، مع شبه استحالة استعادتها كدولة موحدة على المدى المنظور، حتى ولو عاد العالم للاعتراف ببشار الأسد سيصدم بحقيقه أن هذا الأخير لا يسيطر على أجزاء من الأرض إلا بفضل داعميه الأجانب.

العراق لم يعمل كدولة متماسكة من سنوات طويلة، ومن المرجح أن تقوم ميلشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران والكيانات المحلية وأمراء الحرب باستغلال الانتصارات ضد داعش في ملئ الفراغ الذي خلفته داعش، وإن الصراع الأخير بين الأكراد من جهة وبين ميليشيات بغداد وشيعة إيران من جهة أخرى يترك العراق أكثر انفصالا من أي وقت مضى.

إن الدول الممزقة في اليمن وليبيا تنقسم بشكل مستعصي بين الفصائل المتنافسة، وفي الوقت نفسه، يعاني لبنان من الصراع السوري، ويعيش في المواجهة بين حزب الله وإسرائيل، كما أن تمديد ترامب المتردد للوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان يعكس معضلة الغرب: هل ينبغي له الانسحاب والسماح بانهيار الدولة هناك، أو أن يستمر في احتلال عسكري غير قابل للاستمرار في نهاية المطاف؟

وتتنافس الجماعات المناهضة أو غير الخاضعة لسلطة الدولة بشدة على بسط سيطرتها وأسلوب حكمها، وكذلك تفعل الميليشيات والعصابات الإجرامية ووكلاء الدول الأجنبية. وفي العالم العربي سعت إيران بشراسة لإدراج امتيازات الميليشيات في كل شبر من الأرض غير الخاضع لرقابة الدولة، وقضم الأراضي في المناطق البعيدة وتقويض الحكومات المركزية.

كما تستفيد الدول المارقة مثل إيران وكوريا الشمالية من المناطق غير الخاضعة للرقابة في نشر شبكات الأنشطة الإجرامية وتجارة البشر والمخدرات والأسلحة، وهناك نماذج مماثلة في أمريكا الوسطى. ومع أن تجارة المخدرات العالمية تبلغ قيمتها سنويا نحو 435 بليون دولار، فإنه من المستغرب أن شبكات الجريمة المنظمة غالبا ما تكون أقوى من الدول نفسها.

كما أن التوسع الإسرائيلي العدواني عبر إقامة المستوطنات غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكل عقبة أمام إقامة دولة فلسطينية، ولكنه يشكل أيضا عاملا مزعزعا للاستقرار في المنطقة وتدفعها للحرب بين الفينة والأخرى.

ولا تزال مناطق شاسعة في شمال وجنوب الصحراء الكبرى غير خاضعة لسيطرة الحكومة، مع وجود حزام ضخم من الأراضي الخام التي تمتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، مرورا بالمناطق النائية في مالي وتشاد والسودان والصومال. وكثيرا ما تسعى الحكومات الضعيفة هناك إلى فرض سيطرتها من خلال أعمال متفرقة ووحشية تقوم بها قوات مسلحة غير مجهزة تجهيزا جيدا، مما يزيد من تهميش وعدائية الجماعات المحلية، وكثيرا ما تكون هذه المناطق أماكن بائسة للعيش، تفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية، وتتعرض للعنف المزمن، حيث أن التشدد أو الهجرة غالبا ما تكون المصادر الوحيدة للدخل للشباب غير المتعلمين.

عدد قليل من الخبراء يعتقدون أننا رأينا نهاية داعش التي تنسحب إلى مناطق تستهويها من الصحاري والجبال الوعرة حيث يمكن لعناصرها إعادة تجميع أنفسهم بهدوء قبل الشروع بمرحلة جديدة من التوسع، والمستقبل يبدو ورديا أمام المتطرفين خاصة مع زيادة قائمة الدول الفاشلة وضعف حكوماتها.

الغرب نفسه ليس معزولا عن قوى التفكك هذه، فاستفتاء كاتالونيا الأخير هو مجرد مثال واحد على النزعات الانفصالية، والاتحاد الأوروبي يكافح الآن من أجل التعبير عن الهوية والرؤية التي يمكن أن تحتوي على قوى الطرد المركزي للمجموعات اليمينية المتطرفة والانفصالية والغارقة في المحلية.

يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق الضعيفة تسير إلى نهاية حرجة من عدم الاستقرار الذاتي، ومع انتشار عدوى انحلال الدول عبر السكان المشردين والميليشيات والصراع الطائفي والشبكات الإرهابية، وعندما تجد القوى الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة نفسها على طرفي نقيض في نزاعات بالوكالة، فإن النتيجة هي شلل الأمم المتحدة ونظم العدالة الدولية.

وفي مواجهة هذه الديناميات المزعزعة للاستقرار، اتجه الرأي العام الغربي إلى النظر إلى الداخل وعزل نفسه عن العالم الأوسع، غير مبدٍ أدنى شهية –على غير عادته- للتدخل في النزاعات خارج حدوده، واستضافة ضحايا الحرب وتقديم المساعدة الإنسانية الاستباقية.

ومع ذلك، إذا أراد الغرب وقف هذا الاضطراب المعدي قبل أن يصل إلى عتباته، فلا بد من الاعتراف بأن الصراعات البعيدة هي مشكلتنا، ويجب على الدول المتحضرة، من أجل الحفاظ على نفسها، أن تخصص جانبا أكبر من الميزانيات السنوية لحل النزاعات، ودعم الدول الهشة، والمساعدة الإنسانية. وسيتطلب ذلك إعادة النظر جذريا في كيفية عمل المجتمع الدولي، مما يستلزم إصلاح الأمم المتحدة الذي طال أمده.

وكثيرا ما نعتبر العولمة ظاهرة اقتصادية. ومع ذلك، نشهد أيضا عولمة الصراع؛ التي تجلى في حركة اللاجئين الجماعية، وتصدير الإرهاب والتوجهات التوسعية للدول بالوكالة.

لقد اكتسبت الصراعات السورية والليبية تداعيات إقليمية كارثية لأن العالم قد جلس وسمح بذلك. وعلينا الآن أن نتصدى للعواقب، قبل أن يصبح عدم الاستقرار المتزايد هذا أكثر ضررا للأمن العالمي، ولا بد من التصدي بشكل صارم لمرض الانهيار الوشيك الذي أنهك الدول الضعيفة إذا أردنا تجنب العدوى في العالم الأوسع.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s