تغير المناخ وانهيار الدول – درس من مصر القديمة

هنالك العديد من النظريات حول كيفية اندثار الحضارة العظيمة في مصر القديمة، بعضها يتحدث عن غزوات من قبل قوى مجاورة، وبعض يرجع السبب إلى أزمات الخلافة السياسية المؤدية للحرب وعدم الاستقرار، فيما بعض المنظرين يعللون ذلك ببساطة في أن جميع الحضارات سيتصبح حتما في وقت ما هرمة ضعيفة فاسدة، “كالثمرة تنتظر النأمة حتى تهوي”، كما قال ابن خلدون.

ومع ذلك، تشير نظرية جديدة مثيرة للاهتمام إلى أن تغير المناخ في مصر القديمة أدى إلى الجفاف ونقص الأغذية وتردى المحاصيل، وأسفر عن ذلك اضطرابات اجتماعية أدت إلى أعمال شغب وفوضى سياسية؛ مما تسبب بنهاية المطاف في اندثار هذه الحضارة العظيمة. وبعبارة أخرى: تسببت أزمة بيئية في أزمة اقتصادية عميقة أدت إلى أزمات سياسية وسقوط مصر القديمة.

التاريخ يعيد نفسه، والأحداث التي وقعت قبل آلاف السنين لديها احتمال دائم بأن تتكرر ولو في صور أخرى، وتغير المناخ هو واحد من القضايا الكبرى في عصرنا، وفي حين أن العديد أصحاب المصالح يسعون إلى إنكار وجود هذه التغييرات نفسها نرى أن بعض المجتمعات الأكثر ضعفا تعاني بالفعل من تغيرات بيئية عميقة تدمر سبل العيش بمعدلات مرعبة من خلال التصحر وارتفاع منسوب مياه البحر والفيضانات والعواصف الهائلة التي جعلت عدة جزر كاريبية غير صالحة للسكن في الفترة الأخيرة.

وعلاوة على ذلك، فإننا ندرك تماما كيف يمكن للأزمات الاقتصادية أن تؤدي مباشرة إلى عدم الاستقرار السياسي لأن قطاعات كبيرة من المجتمعات المختلفة تعاني من بطالة مزمنة، وطحن الفقر، وموت الأقارب بسبب أمراض يمكن الوقاية منها تماما. وعندما تبدأ المجتمعات التي توقعت يوما ما تحقيق التقدم الاجتماعي وتحسين مستويات المعيشة في رؤية حياتها تزداد صعوبة عاما تلو الآخر، فإن الكثيرين في جميع أنحاء العالم يتحولون بسرعة ضد الطبقات السياسية، ويمكن أن تؤدي الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن ذلك إلى دوامة تراجع مرعب لأن عدم الاستقرار يضر بالاقتصاد ويزيد من مشقة المعيشة.

رأينا هذا في مصر الحديثة، حيث لم تؤد ثورة 2011 إلى هبوط الجنة على أرض مصر وبناء المجتمع المثالي الذي توقعه العديد من المحتجين، وبدلا من ذلك ساءت الأوضاع أكثر بعد أن سحب المستثمرون أموالهم بسبب المخاوف من استمرار عدم الاستقرار، وانهارت صناعة السياحة لأسباب مماثلة، وأدت الاحتجاجات المستمرة إلى تحول المسؤولين للقتال من أجل بقائهم بدلا من توجيه السفينة الاقتصادية إلى الأمام. وعلاوة على ذلك، أدت موجة من التطرف الإسلامي إلى إضعاف الاقتصاد وزيادة عدم الاستقرار في جميع أنحاء البلاد. وبالمثل، رأينا بلدانا مثل ليبيا واليمن وقد انهارت فيها الدولة لأسباب مماثلة.

ووفقا لهذه الفرضية الجديدة، كانت الانفجارات البركانية التي عطلت الأمطار الموسمية في شرق أفريقيا عاملا واحدا فقط أوقف الفيضان الصيفي لنهر النيل الذي اعتمد المزارعون المصريون منذ آلاف السنين على مياهه في الزراعة وتسميد التربة، ومن الواضح جدا مدى سرعة هذه التغييرات في تقليل كثافة سكان حوض النيل ودفعهم إلى اليأس وحافة المجاعة، وليس من المستغرب أن تكون هناك عواقب عميقة على الحضارة ككل.

بعد استمرارها لنحو 2500 عام كواحدة من أكثر الحضارات العظيمة المعروفة بالتاريخ، جرى غزو مصر في نهاية المطاف من قبل الفرس في 525 قبل الميلاد –وهذه واحدة من حوادث التاريخ المرشحة للتكرار باستمرار-، كانت هناك فترة من الاستقلال النسبي في عهد سلالة بطليموس، ولكن مصر ضعفت وأصبحت مقاطعة من الإمبراطورية الرومانية، وفقدت أي ادعاءات بالاستقلال بعد أن أخذت كليوباترا حياتها الخاصة في 30 قبل الميلاد، والسؤال الذي كان المؤرخون يكافحون من أجل الإجابة هو كيف أصبحت هذه الأمة العظيمة على نحو متزايد تحت سيطرة القوى الجديدة؟، ويستشهد الباحثون بتقارير مفصلة من هذه الفترة البطلمية تشير إلى كيفية فشل المحاصيل والمصاعب الاقتصادية التي أدت عبر مراحل إلى اضمحلال الحضارة المصرية بشكل شبه كامل.

يزداد تطرف المناخ في منطقتنا، فكل من شمال أفريقيا والسودان والأردن والعراق يتعرضون لضرر شديد بسبب مزيج من التصحر المتزايد وخفض تدفق المياه من الأنهار، ومناخ مجلس التعاون الخليجي هو الأكثر تطرفا، ولكننا لا نلاحظ ذلك نتيجة أسلوب حياتنا المحصور بين السيارة والمكتب والمنزل ذي التكييف الجيد، وأنا أخشى بالفعل على هذه المنطقة بعد خمسين أو مئة سنة -في عصر ما بعد النفط- عندما لا نملك الثروة الكافية لحماية أنفسنا من الحرارة القاتلة، ولا الأموال اللازمة لتحويل الصحاري لدينا إلى حدائق مروية بشكل مصطنع.

عندما يسير ترامب بعيدا عن اتفاق باريس للمناخ يعطي درسا في كيفية نسف الإنجازات البيئة العالمية، وفي منطقة مجلس التعاون الخليجي شهدنا مستويات هائلة من الاستثمار في الطاقة المتجددة وتدابير للحد من هدر الطاقة والتلوث، لكنني أشعر بالقلق من أن الانكماش الاقتصادي أو السنوات القليلة الماضية قد أضعف حجم هذه الطموحات.

من الصعب رصد كيفية تأثير تغير المناخ على تفاصيل حياتنا اليومية، ومع ذلك، نحن ندرك تماما كيف أدى الاضطراب الاجتماعي في البلدان المجاورة إلى انهيار الدولة، ولقد رأينا أيضا عن كثب كيف يستغل أعداؤنا بسرعة الاضطرابات من أجل إدخالنا في دوامة من الفوضى.

ذلك الدرس من التاريخ المصري القديم حول كيفية يمكن لتغير المناخ أن يخلق دولا فاشلة يعطينا عبرة تقشعر لها أبدان العقلاء، وفي العالم العربي بأزماته السياسية المزمنة قد يبدو تغير المناخ أقل مشاكلنا. ومع ذلك ينبغي علينا جميعا أن نبذل قصارى جهدنا لحماية أنفسنا من عواقب تغير المناخ التي قد تدمرنا من حيث لا ندري.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s