ربما لاحظتم أنني كتبت عدة مقالات سابقا تناولت فيها الانتخابات الأمريكية لعام 2016، وانتقدت برنامج دونالد ترامب اليميني الشعبوي الذي هاجم المسلمين والأقليات وشيطن قوميات أخرى.
لكني في ذات الوقت أعربت أيضا عن رأيي بأن ترمب كرجل أعمال وكشخص تطورت آفاقه السياسية بشكل كبير على مر السنين قد يفاجئنا جميعا ويصبح رئيسا مختلفا جدا عن “المرشح ترمب”.
في الواقع، تميزت الأشهر الستة الأولى من عهد ترامب بإحباط معظم وعوده السياسية، فلم يستطع تأمين تمويل لجداره الفاصل مع المكسيكيين، كما أن وعده بإبعاد المسلمين عن أمريكا قد تقلص بشدة، ومحاولاته وأد قانون “أوباماكار” هزمت مرارا وتكرارا من قبل حزبه الجمهوري نفسه.
ومع ذلك، رأينا ترامب في الشهر الماضي يحاول فعل شيئا جديدا جدا، وهو استثمار الانقسام السياسي في القيام بصفقات مع الحزب الديمقراطي، وهو الحزب الذي طالما نعته بالعنصرية والحماقة، وقد قاد هذا الأمر واشنطن إلى إرباكات حزبية واستقطابات شديدة في ظاهرة غير مسبوقة في السياسة الأمريكية.
أصبح ترامب سئما من فشل حزبه الجمهوري في دعم وعوده الانتخابية، فبدأ يخطب ود المعارضة، أي الحزب الجمهوري، وهذه ربما خطوة ذكية جدا منه تسهل عليه تمرير التشريعات بالاتفاق مع منافسيه الرئيسيين، وفي ذات الوقت يربك منتقديه.
وكان لهذه الانعطافة المفاجئة لترمب تأثير سلبي على حزبه الجمهوري الذي انتاب أعضائه الغضب نتيجة ذهاب زعيمهم إلى الجانب الآخر، ولكن هذا شكَّل بالنسبة للكثيرين منهم جرس إنذار ليكونوا أكثر انضباطا وفعالية، وألا يسمحوا لزعيمهم التمادي أكثر مع أعدائهم.
قد يكون ترامب وسع من هامش مناوراته السياسية بعدما وجد أن معظم الشخصيات البارزة التي حملها معه إلى البيت الأبيض سرعان ما أُقليت أو استقالت، وكان آخر الضحايا ستيف بانون الذي يشبه ترامب في آرائه العنصرية المتطرفة.
ربما لن يتمكن ترامب من مواصلة الرقص على الأرض غير المستقرة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي مع انتخابات الكونغرس العام المقبل، فقد يقرر الديمقراطيون أنه من الأفضل أن يبقوا بعيدين عن الرئيس الذي حصل على أدنى تصنيف شعبي في العصر الحديث، وقد يتضح أن تصرفات ترامب مع المعارضة ألَّبت حزبه الجمهوري ضده، ومع ذلك، لا زال ترامب يحافظ على واحد من وعوده على الأقل من حيث أننا نرى نمطا مختلفا جدا من القيادة عما كنا نعرفه سواء في أمريكا أو في أي مكان آخر في العالم.
ففي الوقت الذي يصل فيه معظم السياسيين أو موظفي الخدمة المدنية إلى مكانة بارزة، يكون لديهم عادة آراء سياسية راسخة بعمق، وهناك أمثلة واضحة قليلة في العالم المتحضر من السياسيين اليساريين الذين ينضمون إلى الحزب المعارض، أو العكس، ونادرا ما تتحدث الأحزاب المعارضة عن بعضها البعض (باستثناء حروب الكلام في وسائل الإعلام وداخل البرلمان)، لكن عالمنا أصبح أكثر استقطابا مع وسائل الإعلام الاجتماعي التي تسمح لنا لإغلاق أنفسنا عن وجهات النظر التي نختلف معها، وتربطنا فقط مع الناس والأفكار التي تتماشى تماما مع الطريقة التي نفكر بها.
ترامب في الواقع هو سياسي مع العديد من العيوب، ويمكننا أن نشعر بعدم الارتياح العميق نتيجة آرائه حول الإسلام والعرق، ومع ذلك، فإن سذاجته ومرونته تخلق مساحة لنوع مختلف جدا من السياسة، ويمكننا أيضا أن نشعر بسرور كبير لما يحصل الآن للدوائر اليمينية المتطرفة التي جلبت ترامب إلى السلطة والتي تعض أصابعها ندما لأن زعيمهم (على الأقل مؤقتا) تخلى عنها ولم يطبق ما ترنوا إليه من سياسيات عنصرية.
وعلى نحو متزايد، انتقلت الحكومات التي طالما نظرنا إليها كأنظمة سياسية ناضجة إلى سياسات اللعب على الحبال، وأصبحت البرلمانات أماكن يتبادل فيها كبار السن الإهانات والصراخ في وجه بعضهم البعض، بل وربما اشتباكات في الأيدي.
يعتبر معظم النقاد الأمريكيين ترامب كارثة للسياسة الأميركية. ومع ذلك، ربما يكون قد أدخل شيئا من الهواء النقي إلى السياسة، وجعل المفاهيم المسبقة حول السياسة الحزبية في حالة من الفوضى، ونبَّه إلى كيف يمكن للسياسة الشعبوية أن تنشط الهامش المجنون من مجتمعنا.
في العالم العربي بصفة خاصة، عندما لا تحقق سياسة معينة النتائج المرجوة تكون ردة فعلنا هي التمسك أكثر بهذه السياسة، ومحاربة جميع الذين يشككون فيها، وتكون النتيجة اجترار السياسات الفاشلة، ورفض الأفكار الجديدة، والشلل السياسي.
فيما لا أوافق على كثير من الطروحات التي جاء بها ترامب، أستطيع على الأقل أن أشيد باستعداده للتخلي عن النهج الفاشل ومحاولة شيء مختلف. في عالم الأعمال هذا هو السلوك العادي، فإذا كان نهجا واحدا يفقدنا المال نقوم بإيقافه وتجريب وسائل بديلة لتحقيق النجاح. في الحقيقة إن مثل هذه العقلية تبدو ثورية في عالم السياسة.
استمرار حالة الاضطراب السياسي التي أطلقها ترامب في الأشهر القليلة الماضية لأربع سنوات قادمة ستكون معجزة، والمعجزة الأكبر هي أن يعاد انتخابه مرة أخرى، ومن المرجح أن ينظر التاريخ إلى ترامب كما لو أنه زلة صغيرة أو لحظة من الجنون، ومع ذلك، فإن السياسة الأميركية قد لا تكون هي نفسها مرة أخرى – وربما هذا شيء جيد!