بينما كنت مسافرا خارج البحرين مؤخرا وقع نظري على بث قناة الجزيرة القطرية لعدة دقائق تلقيت خلالها جرعة من الإحباط جعلتني لا أرغب في رؤية هذه القناة مجددا، فالأخبار والتقارير والتعليقات التي رأيتها -إضافة إلى معظم عناوين الشريط الإخباري- تشي بتفكيك دول مجلس التعاون الخليجي، مع أقصى درجات التشهير بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بل ومحاولة الإيقاع بينهما أيضا.
هذا الخطاب الإعلامي المثير للقلق جعلني أعود بذاكرتي إلى ما قبل نحو عقدين من الزمان، إلى فترة رأيت فيها العرب في كل مكان ذهبت فيه مشدودين إلى قناة الجزيرة على شاشات التلفزيون، كانت الانتفاضة الفلسطينية حينها محط أنظار هذه الأمة، ومهما كانت أوجه القصور في ذلك الوقت، فإن قناة الجزيرة وغيرها من القنوات التلفزيونية العربية الإقليمية الناشئة تمكنت من توحيد مواقفنا بقوة، ومكَّنتنا من دخول غرف معيشة الشعب الفلسطيني لعدة ساعات في اليوم، وفي كل بيت عربي كان هناك تفاعل وتعاطف وغضب كبير -بل وبكاء في بعض الأحيان- إزاء صور الأمهات الفلسطينيات اللواتي يندبن أطفالهن شهداء القنص أو القصف الإسرائيليي، وحينها كان هناك زخما لا يمكن إيقافه نحو العمل العربي الموحد لمعالجة القضية الفلسطينية، فضلا عن القضايا العالمية أخرى.
ثم جاءت حرب الخليج الأولى وانفجر العالم الإسلامي مرة أخرى، ومع غزو العراق في العام 2003 لم تكن هناك قناة تلفزيونية عربية واحدة، بل العشرات منها، كما أن كل من الأميركيين والفرنسيين والروس أطلقوا قنوات تلفزيونية ناطقة بالعربية، وكان الإيرانيون يمتلكون عدة قنوات عربية، وهناك دولة صغيرة مثل لبنان تباهت بوجود عدد محير من القنوات التي تتخذ من بيروت مقرا لها، معظمها يتبع لهذا الفصيل اللبناني السياسي أو ذاك، وفي معظم الأحيان يمكننا تجاهل الأجندة السياسية الكامنة وراء مختلف القنوات، ونكتفي بالتعرف على مجموعة من وجهات النظر المختلفة في محاولتنا الدائمة لمعرفة تفاصيل الصورة كاملة.
وبلغ المشهد الإعلامي العربي ذروة الاستقطاب والإنقسام في العام 2011 مع بداية ما يعرف بـ “الربيع العربي”، وفجأة أصبح لكل قناة تلفزيونية أجندة خاصة بها؛ وغالبا ما تحرض على الثورة في دولة ما، في حين تندد المتظاهرين بالإرهابيين والمخربين في دولة أخرى، وكان هذا واضحا بشكل خاص مع القنوات الإيرانية مثل العالم التي كرَّست تغطية على مدار الساعة لتقارير مزورة عن البحرين وعملت على التحريض على العنف والاضطرابات بشكل علني، فيما تغاضت عن مجازر النظام السوري بحق السوريين.
وقد لعبت الجزيرة دورا مزعزعا على نحو مماثل، وفي منتصف العام 2011 أعلنت هذه القناة علنا “الثورة” في ليبيا وشجعت على التدخل الغربي فيها واعدةً الليبيين بمستقبل مستقر وديمقراطي بعد القذافي، لكن عندما تحولت ليبيا إلى ساحة صراع بين فصائل الثورة كانت قناة الجزيرة تسحب يدها من المشهد الليبي ببراعة.
قد تكون قنوات مثل قناة الجزيرة والعلم أسوأ الجناة، ولكن للأسف هناك أيضا عدد قليل من القنوات التلفزيونية العربية اليوم التي تكرس نفسها للدعاية لتوجه معين أو تخدم أجندة معينة، ما يجعلنا نفقد الثقة أكثر وأكثر في المشهد الإعلامي العربي.
أنا لا أقول إن هذه ظاهرة عربية، ففي وقت ليس ببعيد كانت قنوات مثل “سي إن إن” تبث لعدة ساعات قليلا من الأخبار مقابل الهجوم على المرشح دونالد ترامب من جميع الزوايا، وعلى الطرف الآخر كانت قناة فوكس نيوز تلمع صورة ترامب عبر اللعب على عواطف الجمهور، وهذا ما أدى إلى حالة استقطاب شديدة في الساحة الأمريكية وصل إلى حد الانقسام.
هذا هو خطر مشهدنا الإعلامي الحالي في العالم العربي، فقبل 15-20 سنة، عملت وسائل الإعلام العربية بشكل عام كقوة موحدة للغالبية العظمى منا ممن لديهم آراء مشتركة حول فلسطين وحرب العراق، فيما اليوم أصبحت وسائل الإعلام العربية قوة للتقسيم، مع قدر مخيف من التغطية الإعلامية المكرسة لمهاجمة المنافسين السياسيين، وعدم توفير تغطية موضوعية للتطورات الراهنة، وأنا أخشى على إخوتنا وأخواتنا في قطر من الذين ينساقون خلف ما تقوله لهم وسائل إعلامهم حول أننا في البحرين والسعودية أعداءهم اللدوديين ومصدر كل معاناتهم، وأسأل بعد كل ذلك: هل سيعود مجلس التعاون الخليجي إلى سابق عهده مرة أخرى؟
أشعر بالقلق عندما أقابل عائلات لبنانية رائعة لكن جرت أدلجتها وغسل أدمغتها نتيجة متابعتها اللصيقة لما يبثه تلفزيوني المنار والعالم، وانسياقها خلف تبني وجهة نظر أحادية للأحداث المحلية والإقليمية والدولية.
وأيا كان موقفنا من قناة الجزيرة، فإنه ينبغي أن نحزن إزاء قيام بنيامين نتنياهو باستغلال الفرصة وإغلاق مكتب قناةالجزيرة في القدس للتعتيم على جرائمه بحق الأقصى والشعب الفلسطيني، وهذا تذكير مفيد في مدى سعادة أعدائنا بالانقسامات السائدة بيننا، وأنهم يفعلون كل ما في وسعهم لاستغلالها.
وسائل الاعلام الاجتماعية تجعل الأمور أسوأ ألف مرة، لأن كثيرا من المستخدمين يحدودن مواقفهم بناء على ما يتصفحونه على الانترنت من صور وتقارير جرى إعدادها بمعايير تقل في الحقيقة عن أسوأ معايير القنوات التلفزيونية، كما أصبحت بعض القطاعات الأكثر قتامة في الإنترنت مجرد ملاذات للتحريض الطائفي ونظريات المؤامرة والتطرف، مع غسيل رهيب لأدمغة الشباب ودفعهم لتبني مواقف وآراء سياسية وتجنيدهم لخدمة هذا المشروع أو ذاك.
هذه الحرب الإعلامية لها أيضا عواقب تصاعدية، لأنه كلما بثت إحدى القنوات تقرير سلبي عن قطر، فإن الموظفين في قناة الجزيرة يندفعون بالفعل خلف محاولة إعداد تقرير أكثر سلبية وافتراء بعشرة أضعاف.
إذا كنا لا نستخدم سوى جزء صغير من الطاقة التي نستهلكها في مهاجمة بعضنا البعض، فمن المخيف أن نتصور ما مدى القوة التي يمكن أن يملكها العالم العربي الموحد على الساحة العالمية.
على مدى السنوات السبع الماضية عملت وسائل الإعلام الكثير لتضعنا ضد بعضنا البعض – هل يمكننا مرة أخرى استخدام وسائل الإعلام لتوحيد أنفسنا؟