من المثير للقلق أن نرى كيف تتغير الأمور بسرعة في الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة ترامب الجديدة، خاصة بعدما وقعت بالفعل واحدة من أسوء مخاوف الكثيرين في الأيام الأخيرة بحدوث عنف في مظاهرة كبيرة قامت بها جماعات يمينية متطرفة، وفيما لا يمكن اعتبار التطرف ظاهرة جديدة في أميركا، إلا أن هذا التطرف يقتصر عادة على هوامش ضيقة، وليس خروج متظاهرين يحملون أعلاما نازية ولافتات عنصرية بشوارع المدن الأمريكية الكبرى في مشهد مرعب.
كثير من الحركات السياسية تميل إلى أن يكون لها هامش متطرف، وكان هذا واضحا للغاية مع مفاجأة وصول ترامب إلى سدة حكم أقوى دولة في العالم، وسرعان ما اتجهت القنوات الإعلامية القريبة منه إلى تبني ودعم الأفكار القومية والعنصرية المتطرفة، جنبا إلى جنب مع تشويه صورة المسلمين واللاجئين.
وهذا أمر ينطوي على إشكالية خاصة في أمريكا بتقاليدها الخاصة بالرق والانقسامات العرقية. فجماعات السود والمهاجرين والمسلمين باتت أكثر قلقا من أي وقت مضى إزاء صعود اليمين المتطرف، ويخشى الكثيرون من أن صعود اليمين المتطرف في ولاية فرجينيا مؤخرا هو مجرد بداية لفترة من الاضطرابات السياسية والعنصرية، مع وجود جماعات سياسية معارضة تواجه بعضها البعض في الشوارع، وحتى قبل أن تولي ترامب الرئاسة شهدنا توترات دورية في المدن الأمريكية – وخاصة “حركة حياة السود” التي اتخذت موقفا إزاء وحشية الشرطة ضد الأمريكيين من أصل أفريقي.
هل يفهم ترامب عواقب إخراج هذا الجني من الزجاجة؟ إن تصريحاته المترددة إزاء أعمال العنف الأخيرة تشير إلى أنه لم يُقدِّر تماما مدى خطورة هذه التطورات على رئاسته.
في الواقع لا زالت العنصرية متأصلة إلى حد كبير داخل شرائح معينة من المجتمع الأمريكي، وقد أدركت ترامب حقا أن التحريض على العداء ضد المهاجرين كان أحد أهم أسباب فوزها في الانتخابات، ويمكن القول بشكل أو بآخر إن التيارات اليمينية المتطرفة تمثل أقليات صغيرة هنا وهناك، وقد كانت ذات تأثير كبير جدا في دعمها لترامب، لكن يبدو أن الغالبية العظمى من الأميركيين مرعوبين من قبل عناصر البلطجين العنصريين الذين يلوحون بالأعلام النازية في شوارعهم، وفي حال تصاعدت موجات العنف فإن الرأي العام سيزداد سخطا على ترامب.
ومن الإنصاف القول إن السياسيين الشعبويين يطلقون العنان لقوى يستثمرونها لصالحهم مؤقتا لكنهم لا يستطيعون السيطرة عليها لاحقا، فمثلا؛ يشهد العالم حاليا الذكرى السبعين لتقسيم الهند وباكستان، حينما دعا القوميون والشخصيات الدينية من الجانبين إلى إنشاء دول منفصلة ذات أغلبية مسلمة وأخرى ذات أغلبية هندوسية، ولكن كلهم فقدوا السيطرة على الأحداث اللاحقة التي قتل فيها أكثر من مليون شخص من الجانبين في أعمال عنف طائشة.
لقد شهدنا نزعات مماثلة لما يسمى بالربيع العربي، فقد كانت جرى اختطاف المطالب الشعبوية بالإصلاح والتغيير من قبل قوى راديكالية كانت مستعدة لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها، وفي العديد من الحالات قبلت الأموال والدعم اللوجستي من قوى أجنبية من أجل أن تعيث فسادا داخل مجتمعاتها، فما أن تفلت زمام الأمور وتخرج عن النظام العام وتفقد الدولة هيبتها حتى يظهر سياسيون انتهازيون وغيرهم من الساعين للاستفادة من تطورات الأوضاع والتحكم بها، ويظنون أن عجلة قيادة مركبة الجماهير الجامحة في يدهم، لكن سرعان ما يتفاجؤون بانفلات الأوضاع ويجدون أنفسهم تحت عجلات تلك مركبة الجماهير تلك التي تدهس كل شيء أمامها ولا أحد يستطيع كبح جماحها أو التنبوء باتجاهها ومحطتها النهائية.
لقد استغل الرئيس ترامب بذكاء وسائل الإعلام وعدد من وسائل التعبئة الشعبية لاكتساح السلطة وسحق كل منافسيه، وفي الواقع نجد أن عناصر اليمين المتطرف العنصري أكثر راديكالية من ترامب نفسه، لكن هذه العناصر اكتسبت زخما إضافيا بوصول ترامب للسلطة، وهذا بدوره أيضا عزز صعود الجماعات اليمينية المتطرفة والشعبوية في أوروبا وحول العالم.
نعيش في أوقات خطيرة لا يمكن التنبؤ بها، إن اقتصادات العديد من البلدان راكدة، وهناك نسب عالية من الشباب العاطلين عن العمل والمحرومين في جميع أنحاء العالم الذين يمكن بسهولة إغرائهم واستقطابهم لدعم المشاريع السياسية الطوباوية، سواء من قبل اليسار أو اليمين المتطرفين، وفي العديد من الانتخابات حول العالم شاهدنا سياسيين مرموقين يكافحون من أجل التوصل إلى رؤى ذات مصداقية يمكن أن تحفز الجماهير المحبطة التي تشعر بالإقصاء والتهميش.
ترامب أساسا رجل أعمال، وبات جليا أنه لا يملك موقفا واضحا إزاء العديد من القضايا وليس لديه رؤية سياسية متماسكة، وإن الأفراد الذين يحملون أفكار وقيم دونالد ترامب ليسوا التهديد الرئيسي، وإنما الخطر في العالم غير المستقر الذي نعيش فيه، والذي يتيح بيئة مواتية للسياسيين الشعبيين لإطلاق قوى متطرفة بأفكار وتوجهات مختلفة، ثم تخرج هذه القوى عن السيطرة بشكل يصبح معه مستحيلا إعادة الاستقرار.
هذه القوى – سواء كانت داعش أو النازيين الجدد الأمريكيين أو الماركسيين أو غيرهم – تمثل في حد ذاتها نسبة ضئيلة من المجتمع، لكنها قادرة على إثارة فوضى عارمة، لكن يجب أن يكون هناك لحظة حاسمة وسط كل مظاهر الفوضى والعنف، لحظة يتمكن فيها المجتمع ككل من إعادة تأكيد نفسه وينجح في تكريس رؤية سياسية ليبرالية وتمثيلية تجعل رفاهية جميع المواطنين أولوية رئيسية.