أكاد أجزم أن كل التوجهات والخطط الحكومية الخليجية الرامية لتنويع مصادر الاقتصاد الوطني ومواجهة انهيار أسعار النفط لن تحقق النجاح المنشود ما لم تعمتد رفع انتاجية المواطن الخليجي محورا أساسيا لها.
لقد كتبت سابقا عدة مقالات في هذا الاتجاه، من بينها مقال تحت عنوان “كفانا دلع”، وهو عنوان اعتبره بعض الأصدقاء صادما نوعا ما، لكني لن أمل من تكرار ما ورد في هذا المقال حول مقولة للرئيس الأمريكي السابق جون كينيدي يخاطب فيها أبناء بلده بالقول: «لا تسأل عما يمكن أن تقدمه لوطنك، بل اسأل نفسك أنت عن الذي يمكن أن تقدمه لوطنك»، ومقولة أخرى للأديب اللبناني العالمي جبران خليل جبران «ويل لأمة تأكل ما لا تزرع، وتلبس ما لا تحيك».
كما كتبت مقالا آخر عن الزيارة التفقدية المفاجئة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لبعض المرافق الحكومية في إمارة دبي، وما شهده بنفسه من تسيب في مفاصل العمل الحكومي في إمارة تعتبر إدارتها الأكثر تقدما، فما بالنا في أداء الأجهزة الحكومية الإداية في أماكن أخرى من خليجنا العربي؟
يحلو للبعض تسمية دولة اليابان بـ “كوكب اليابان”، ذلك أن ظروف الحياة الطبيعية هناك لا تختلف صعوبتها كثيرا عن بنغلاديش أو الفلبين، كما أن العيش في أرض مهددة دائما بالزلازل والأعاصير والكوارث يكاد يكون أصعب من التعايش في صحراء الربع الخالي أو وسط ليبيا، لكن الفرق هو أن الإنسان الياباني -الذي يملك أيدي وأرجل وعقل مثله مثل غيره من البشر- قبِل التحدي وطوَّع البيئة لصالحه، بل وأبدع في ذلك.
أخشى أننا نحن العرب لا زلنا نفكر في عقلية الأعرابي المرتحل خلف الكلأ والماء، والذي ينزل في أرض يجد فيها ماء وخضرة له ولأغنامه، وعندما يضمحل العشب ويغور الماء ما يلبث هذا الأعرابي أن يحمل خيمته على ظهره باحثا عن أرض أخرى في مكان آخر، دون أن يحاول بذل جهده في التمسك بالأرض وزراعتها والاستقرار فيها، وأن يترك أبناءه يكملون مسيرة البناء من بعده.
دراسات كثيرة أكدت أن انتاجية المواطن الخليجي في مستويات دنيا تبعث على الخوف، والعقلية السائدة هنا هي أن الوظيفة –خاصة الحكومية منها- هي مجرد قناة لتوزيع عوائد النفط على المواطنين، وليست مكانا للعمل والانتاج والتحدي والتنافسية وتطوير الذات وخدمة المجتمع.
هناك خطط طموحة للاعتماد على المواطن الخليجي بديلا عن الأجنبي، لكن هل نحن متأكدين من أن هذا المواطن على قدر كاف من الالتزام والتأهيل والرغبة في العمل والانتاج؟ أم أن الميزة الوحيدة التي يملكها هي أنه مواطن؟
إن رؤية البحرين الاقتصادية 2030 والتي صدرت في العام 2008 رسمت أهدافا طموحة جدا، من بينها جعل البحريني الخيار الأول في التوظيف، وقد ظهرت بالفعل هيئات متقدمة جدا مثل هيئة سوق العمل وهيئة صندوق العمل “تمكين”، وقد تحقق الكثير من الانجازات على الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية التي مرت بها البحرين خلال السنوات السابقة، ولكن هل ما تحقق حتى الآن يلاقي طموحاتنا وتطلعاتنا؟ وإلى أي حد تمكنا بالفعل من جعل البحريني خيارا أول في التوظيف؟
إن إلزام مؤسسات القطاع الخاص بتوظيف المواطنين جنبا إلى جنب مع الأجانب هو توجه جيد، شاهدناه في شركات كبرى مثل أرامكو وبابكو وغيرها، وها هم أبناء البلد يشغلون أعلى المناصب القيادية في تلك الشركات بديلا عن الأجانب.
لكن هل الجيل الحالي هو ذاته جيل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟ ليس لدي إجابة حاسمة على هذا السؤال، لكن يمكنني القول إن معظم أفراد جيل الشباب الخليجي الآن –في البحرين مثلا- يتحدثون لغة أجنبية أو أكثر بطلاقة، كما أن الكثير منهم لديه شهادات عليا من جامعات أجنبية مرموقة، لكن رغم ذلك هل أنا مطمأن إلى المستقبل؟
لدي مكاتب في كل دول الوطن العربي، ولا يسعني إلا أن أعرب عن أسفي لما أراه من قلة –إن لم أقل انعدام- المسؤولية عند كثير من طالبي الوظائف من جيل الشباب. إنهم يريدون كل شيء دفعة واحدة دون أن يظهروا أي استعداد للمغامرة أو البذل.
إن حالة التشوه الاقتصادي التي نراها في بلدان الخليج العربي فقط بدأت مع اكتشاف النفط، عندما أصبح الإنفاق الحكومي هو المحرك الأكبر للاقتصاد والنمو، وبدأت الأجهزة الحكومية بالتضخم جنبا إلى جنب مع تلاشي دور القطاع الخاص الذي اكتفت مؤسساته بانتظار العطاءات أو المناقصات الحكومية. أما الآن فقد حان الوقت بالفعل لنقل جزء كبير من مسؤوليات الحكومة للقطاع الخاص الأكثر مرونة والأقدر على تنفيذ المشاريع.
حالة التشوه الاقتصادي تلك نجم عنها أيضا تشوه في رؤية المواطن الخليجي لدوره في التنمية والانتاجية، فدخل ما نسميه بـ “دائرة الراحة” القائمة على الاعتماد في كل شيء على الحكومة، التي اعتقد أن دورها هو توفير الخدمات له من صحة وتعليم وتوظيف وتزويج وإسكان بالمجان، طالما أنه ابن هذه الحكومة، وطالما أن هذه الحكومة هي من يتكفل بكل شيء.
لذلك ليس علينا أن نخشى التغييرات الكبيرة التي تقوم بها الحكومات الخليجية حاليا لتصحيح الأوضاع الاقتصادية، ومن ذلك تصحيح تشوهات سوق العمل، واستعادة جزء من تكلفة الخدمات الحكومية، وفرض ضريبة على القيمة المضافة فمن يستهلك أكثر يجب أن يدفع أكثر.
الإنسان هو محور ومحرك التنمية والتطور، وبناؤه فكريا وعلميا وعمليا يجب أن يكون أولوية الأولويات، بعيدا عن الإتكالية والإيديولوجيا، وهناك من قال: إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحا، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة، أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا.