لننحر السبب

 

أظهرت دراسة عالمية جديدة زيادة كبيرة وصلت إلى 100٪ في مستويات الانتحار في الشرق الأوسط على مدى الـ 25 عاما الماضية، مقارنة مع تغيرات متواضعة فقط في معظم أنحاء العالم الأخرى.

ووفقا لمؤلف هذه الدراسة فإن “العنف الكبير المتأصل يخلق جيلا تائها من الأطفال والشباب، وإن مستقبل الشرق الأوسط قاتم ما لم نتمكن من إيجاد وسيلة لتحقيق الاستقرار في المنطقة”.

أطالع هذه الدراسة وأفكر: لماذا يقدم الشباب العربي على الانتحار؟. في الواقع إن كثيرا من أولئك الشباب ترعرعوا في بيئة غير سوية تسودها مستويات عالية من العنف والإيذاء الجسدي وحتى الجنسي أو المرض العقلي، وهم لا يستطيعون تجاهل ماضيهم والمضي قدما في بناء مستقبلهم، كما أن الدراسة أظهرت معدلات عالية لانتحار الإناث ترتبط بالزواج القسري وغيره من الضغوط الاجتماعية في جميع أنحاء العالم الإسلامي تقريبا.

ويجب ألا ننسى أن التفجيرات الانتحارية ظاهرة حديثة نسبيا؛ والتي كان روادها في البداية عناصر حزب الله وغيره من الجماعات المدعومة من إيران في الثمانينات، قبل أن يتم اعتمادها من قبل تنظيم القاعدة وداعش.

لقد كانت شرارة ما يسمى بـ “الربيع العربي” انطلقت أساسا من إقدام الشاب التونسي البائع الجوال محمد بوزيزي على حرق نفسه بعد الإهانة التي تعرض لها على أيدي مسؤولي البلدية، وقد ألهم بوزيزي بفعلته هذه العشرات من الشبان العاطلين عن العمل والمدفعون باليأس بسبب الفقر وانعدام الفرص إلى أن يحذون حذوه.

يأتي ذلك بعد أن كانت الدول العربية سجلت تاريخيا واحدا من أدنى معدلات الانتحار في العالم، وعزا البعض هذه المستويات المنخفضة من الانتحار العوامل الدينية والمجتمعات القوية.

لكن اليوم نرى أنه من الحقائق المرعبة أن الشباب الذين ينهون تعليمهم ويتطلعون إلى بناء مستقبلهم يفكرون في الانتحار بسبب نقص فرص العمل، وتوقعاتهم العالية إزاء الفقر المدقع الذي ينتظرهم، وهذا ما يؤكد لماذا يجب القيام بالمزيد في جميع أنحاء المنطقة لتحفيز الاقتصاد وخلق فرص عمل للخريجين وتخفيف الصعوبات الاقتصادية.

لقد أثار اهتمامي تقرير صدر مؤخرا في بريطانيا يدعو إلى عدم التسامح إطلاقا مع الانتحار. للوهلة الأولى، بدا هذا مثير للسخرية، فالانتحار ليس مجرد مرض مثل شلل الأطفال أو الجدري يمكننا القضاء عليه عبر لقاحات تعطى للأطفال حديثي الولادة.

ومع ذلك، اكتشفت أنه في بريطانيا وأوروبا وأمريكا، تعتمد السلطات المحلية بشكل متزايد هدفا يتمثل في الحد من وقوع حوادث الانتحار من خلال مجموعة معقولة من الإجراءات الوقائية القائمة على اكتشاف عوارض التحذير التي تظهر على أشخاص ربما يقدمون على الانتحار  في فترة من فترات حياتهم، والخطوة الأولى والأهم التي يجب أن نعرفها جميعا هي أهمية تغيير موقفنا من خلال رفض فكرة أن الانتحار هو ظاهرة حتمية، وأنه لا يمكن وقف رغبة بعض الأفراد في قتل أنفسهم.

ومن بين المبادرات الرامية إلى جعل الانتحار أكثر صعوبة مشروع كبير لبناء شبكة أمان تحت جسر “البوابة الذهبية” في الولايات المتحدة، وهو المكان الشاهق الذي لقي أكثر من ألف شخص حتفهم بالقفز من فوقه، ذلك فيما وُجِدَ أن 94% من بين 500 شخص جرى منعهم من القفز من على هذا الجسر لم يحاولوا أبدا قتل أنفسهم مرة أخرى، مما يدل على أن معظم الذين يفشلون في محاولة الانتحار يدركون لاحقا أنهم كانوا على خطأ، ويواصلون مسيرة حياتهم.

ومع ذلك، فإن أهم الإجراءات التي أدت إلى تقليل نسبة الانتحار إلى ما يقرب من الصفر في بعض الأماكن كانت عبارة عن نظم إنذار مبكر لدعم أولئك الذين يظهرون علامات الاكتئاب أو إيذاء أنفسهم، فلا أحد يريد حقا أن يقتل نفسه، وحتى أولئك الذين يعانون من الأمراض النفسية الأكثر إيلاما يمكن أن يستفيدون من الدعم لإعادة حياتهم مرة أخرى إلى مسار أكثر إنتاجية.

إن هذه المبادرات جديرة بالدعم والثناء، لكن أعتقد أيضا أن هناك درسا مهما يجب أن نستقيه من ذلك، وهو أنه يتوجب علينا أن ندرك أننا كبشر متساوين بالفعل من حيث الحق في التمتع بهذه الحياة دون أن يتاح لأفراد معينين –لسبب أو لآخر- الحق في مصادرة سعادة وأرزاق وطريقة حياة باقي أفراد مجتمعهم أو جماعتهم، وأنه لا يمكننا تجاهل الأسباب التي ربما تدفع بشاب من شبابنا إلى إلقاء نفذه من النافذة نحو اليأس، وأن نعمل جنبا إلى جنب على إثراء الحياة الفردية بما يسهم في إثراء حياة المجتمع ككل.

كما أنه ربما نكون من بين المسؤولين -دون قصد- عن ارتفاع نسبة الانتحار في مجتمعاتنا، وذلك عندما نحكم بشكل مسبق وتمييزي على جيل الشباب بأن بعضه سوف ينجح ويزدهر، في حين أن البعض الآخر متجه إلى الفشل وعيش حياة الفقر والبؤس والإذلال.

فحكمنا على شريحة ما من المجتمع بأنها متجهة إلى الفشل يؤدي بالضرورة إلى أن هذه الشريحة ستصبح بالفعل خطيرة على المجتمع نفسه من خلال الجريمة والتطرف وعبء الاستحقاقات الاجتماعية، والتكاليف الاجتماعية الأخرى المتمثلة في أن نسبة عالية من السكان غير منتجة.

في البحرين رأينا شبابا الذين لا يفقهون شيئا بالسياسة يخرجون ليلة بعد ليلة لتدمير مجتمعاتهم عبر عمليات التخريب العبثية مثل الاعتداء على رجال الأمن وإغلاق الطرق وحرق الإطارات، وهنا علينا أن نقرر أن هذه الظواهر الاجتماعية ليست حتمية، وإذا كنا لا نريد تكرار هذه الاضطرابات كل بضع سنوات علينا أن نستثمر في وضع هؤلاء الشباب على مسار صحيح أكثر اندماجا وانتاجية.

أولئك الذين اختاروا إنهاء حياتهم من خلال تفجير أنفسهم وقتل الآخرين لم يولدوا أشرارا، وعلينا أن نكون أكثر صدقا مع أنفسنا بشأن استخراج ومناقشة أسباب تحول الشباب العاطفي المتحمس إلى مسار يائس ومأساوي.

الإسلام لا يحرم ازهاق أرواح الآخرين أو الاعتداء على أجسادهم فقط، وإنما يحرم الانتحار وإيذاء الجسد أيضا، ويدعونا للصبر على الشدائد، والتمسك بالأمل والحياة، وعندما نتخذ إجراءات لوضع هذه القيم موضع التنفيذ من خلال المجتمعات المحلية التي تقدر وتحمي الجميع بما فيهم الشرائح الأكثر ضعفا وفقرا بيننا، فإنه يمكن أن نحقق تقدما ملموسا للقضاء على الشرور الاجتماعية مثل الانتحار والتعصب والجنوح والتطرف.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s