درس من أمريكا اللاتينية..

كثيرا ما يقال إن الطريق الى الجحيم تحفه النوايا الحسنة، وهذا هو الحال بوجه خاص عندما يقرر الأفراد السذج والحالمون والمثاليون حمل السلاح ضد حكوماتهم.

لقد ثبت مرارا وتكرارا أن هذا هو الحال في بلدان أمريكا اللاتينية: كولومبيا والسلفادور وهندوراس ونيكاراغوا، والقائمة تطول، وليس لدي أدنى شك في أن العديد من “مقاتلي الحرية” الحرية هؤلاء كانوا يتحلون بأفضل النوايا، وأرادوا إيجاد حلول مباشرة للفقر وعدم المساواة والفساد الذي يرونه في مجتمعاتهم، غير أن جميع تلك الجماعات المسلحة – سواء كانت يسارية أو يمينية أو دينية أو علمانية – سرعان ما أصبحت جزءا من المشكلة لا من الحل.

تتطلب هذه الفصائل الطامحة كميات كبيرة من المال حتى تتمكن من الإنفاق على نفسها وشراء الأسلحة، وفي أمريكا اللاتينية، كان الحل الواضح هو تجارة المخدرات، فسرعان ما كانت العديد من هذه الحركات تصدر أطنانا من الكوكايين وغيرها من المواد غير المشروعة إلى الولايات المتحدة والعالم، وبلغ الإنتاج السنوي من الكوكايين في كولومبيا وحدها 710 أطنان في عام 2016، كما وانخرطت هذه الجماعات شبه العسكرية بعمق في عمليات النهب والخطف والابتزاز وتهريب الأسلحة وغيرها من الإنشطة الإجرامية الأخرى.

خلال الحرب الباردة كان من السهل على هذه الميليشيات الوصول إلى الأموال، إما عن طريق إعلان أنفسها قوى شيوعية أو معادية للشيوعية، وبالتالي تستفيد من ملايين الدولارات من المساعدات السوفيتية أو الأمريكية، وكثيرا ما بذلت واشنطن وموسكو جهودا كبيرة لإخفاء دعمهما لمنظمات حرب العصابات هذه، لعلكم تذكرون قضية إيران كونترا خلال الثمانينيات التي حصلت فيها إيران على أسلحة أمريكية عن طريق إسرائيل مقابل قيام إيران بتحويل العائدات إلى متمردي كونترا اليمينيين المتحالفين مع الولايات المتحدة في نيكاراغوا، وكان كل ذلك في محاولة للتوسط في إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الذين اختطفهم حزب الله في لبنان.

وبمجرد أن تكتشف حركات العصابات هذه أن التمرد يمكن أن يكون مربحا، تصبح صناعة التمرد تجذب العصابات والبلطجية وأولئك الذين يسعون إلى الثراء الفاحش من خلال أنشطة غير مشروعة، وتصبح المدن معاقل المتمردين مرتعا لأرباب تجارة المخدرات وتهريب الأشخاص والبغاء والجريمة المنظمة، وينشأ الشباب في مجتمع ينخر فيه الفساد على جميع المستويات يتعلم فيه الشباب أن الطريق الوحيدة لتصبح غنيا وقويا ومؤثرا هي من خلال الجريمة والعنف.

وهكذا فإن هذه الحركات التي انطلقت أساسا من أجل استئصال الظلم الحكومي والفساد والإجرام تصبح في حد ذاتها منبعا للفساد والظلم والإجرام بمستويات تفوق ما كان سائدا قبل ظهورها.

يمكننا في الواقع معاينة العديد من نماذج هذه الجماعات الإجرامية في منطقتنا، ففي العراق انخرطت عناصر من الحشد الشعبي بعمق في الإجرام ونهب المدنيين والحصول على إيرادات من عمليات الاختطاف والابتزاز، كما يكمل الحرس الثوري الإيراني دخله من إدارة عمليات تهريب المخدرات على نطاق المنطقة (مما يؤدي إلى أن إيران لديها واحدا من أعلى مستويات الإدمان على الهيروين في العالم)، وفي البحرين حصل المتورطون في أنشطة إرهابية على أموال من الخارج ولكنهم سعوا أيضا إلى الاستفادة من أنشطة إجرامية بما في ذلك غسل الأموال، وقد كانت داعش لفترة من الزمن أغنى منظمة إرهابية على كوكب الأرض من خلال سرقة البنوك في المدن التي استولت عليها، وتداول النفط مع نظام الأسد، وفرض ضرائب عقابية متزايدة على المناطق الخاضعة لسيطرتها.

وفي الدول المتضررة من ما يسمى بالربيع العربي، استفاد المجرمون المنظمون من عدم الاستقرار وتغلغلوا بين “الثوار” ونهبوا المباني الحكومية والممتلكات الخاصة، والأنكى من ذلك أن أنظمة إقليمية عملت على استثمار فوضى الربيع العربي ورفع معدلات الفتن والاضطرابات في دوله من أجل تحقيق مآربها الخاصة ومخططاتها التوسعية ومحاولة بسط هيمنتها الإقليمية.

إن دولا مثل كولومبيا وهندوراس والسلفادور -بعد عقود من التمرد وانعدام الأمن وتفشي الجريمة- يجب أن تشكل عبرة للوطن العربي حكومات وشعوب، وربما يكون هناك ميل في هذه الدولة أو تلك إلى قبول مستويات معينة من الاضطرابات والإرهاب والاشتباكات، لكن الاضطراب السياسي يولد بسرعة العصابات والإجرام، حيث يسعى “المقاتلون من أجل الحرية” إلى جعل أنشطتهم مستدامة، ويستفيد المجرمون من الفوضى، فيما يتم تحويل انتباه الأجهزة الأمنية إلى تحديات أخرى.

في دول أمريكا الوسطى، بدأت العاصفة مع المتمردين الذين يختبئون في الغابات النائية ثم انتشروا إلى المجتمع ككل، مما أدى إلى وصول وباء الفساد أولا لجهاز الشرطة وصولا إلى جميع مستويات المؤسسات السياسية، حتى بات المجرمون أقوى من الدولة نفسها، ونرى نزعات مماثلة تظهر في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وهذه الأنشطة الإجرامية مثل تهريب المخدرات والأسلحة والبشر تنتشر بسرعة عبر الحدود وتصيب المنطقة بأسرها، وسيكون هناك بعض الذين يرحبون بهدوء بهذه الظاهرة أملا بالحصول على غنائم، وبالنسبة للأطفال في سوريا الذين نشأوا لا يعرفون شيئا سوى أهوال الحرب، سيكون من السهل جدا استمالتهم بوعود لثروة والقوة.

الدرس المستفاد من دول أمريكية اللاتينية هو أنه إذا سمحنا لعدم الاستقرار في بلدان مثل سوريا بأن يستمر وينتشر فهناك احتمال قوي بأن تصبح الحياة أقل أمانا لجميع مواطنينا، وقد نعتقد أن الأوضاع لن تصبح أكثر سوءا أكثر مما هي عليه الآن في أجزاء من المنطقة؛ ولكن عندما يصبح الإرهابيون عصابات وينجحون في إفساد المجتمع من أعلى إلى أسفل تكون الاحتمالات أقوى بأن تزداد الأمور سوءا.

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s