قبل عام كنت هنا في المملكة المتحدة عندما بدا أن هذه الأمة حسمت أمرها حيال مغادرة الاتحاد الأوروبي نهائيا، ولكن الآن وبعد اثني عشر شهرا على هذا القرار تبدو بريطانيا العظمى بلد مرتبك لا يعرف ماذا يريد.
على الرغم من أن 52٪ فقط من البريطانيين صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء صيف العام 2016 إلا أن ذلك كان ذلك كافيا لحكومة تيريزا ماي لتفتح جميع بوابات الخروج الممكنة على مصراعيها: ترك السوق الأوربية المشتركة، ووقف حرية حركة المواطنين الأوروبيين، والتخلي عن الاتحاد الجمركي، وإلغاء التزام بريطانيا بالآلاف من قوانين وأنظمة الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك عضوية محكمة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان.
حكومة تيريزا ماي هددت أيضا بأنه إذا لم يقدم الاتحاد الأوروبي لبريطانيا صفقة خروج تتوافق مع أهوائها فإن المملكة المتحدة ستطلق الاتحاد الأوروبي دون أي خطط أو ترتيبات، وهي خطوة توقع جميع الخبراء الاقتصاديين تقريبا بأنها ستكون كارثية للاقتصاد البريطاني.
وأتفهم الآن ما يبديه كثير من البريطانيين من مشاعر القلق والتوتر من البريكست وتداعياته، فبالنسبة للشركات سيجعل الانفصال وآليات تطبيقه من التجارة مع أوروبا أكثر صعوبة. أما بالنسبة للمواطنين وخاصة الشباب ستتقلص حقوقهم في العيش والعمل في أوروبا، وبالنسبة للقطاع المصرفي الدولي وغيره من القطاعات التجارية التي اعتمدت لندن كمركزها الإقليمي والعالمي باتت الآن مضطرة للتفكير وربما البدء بالانتقال للخارج، وبالنسبة لأولئك الذين يهتمون بدور بريطانيا في العالم باتت المملكة المملكة المتحدة أكثر عرضة لزعزعة مكانتها وتأثيرها على الساحة العالمية.
من وجهة نظري، كان القصور في المناقشات وقت الاستفتاء هو التركيز على الأيديولوجية وعدم الاعتماد على الحقائق، وادعى أولئك الذين طالبوا بمغادرة الاتحاد الاوروبي بأن الانفصال سيجعل بريطانيا كبيرة مرة اخرى ويعزز السيادة الوطنية والاستقلال.
بالمقابل يدرك البحرينيون مثلا أن حضور البحرين في مجلس التعاون الخليجي يعزز صوتنا على المسرح العالمي ويسمح لنا بأن نكون قوة إقليمية ودولية، جنبا إلى جنب مع مراعاة مبادئ السيادة الوطنية والقرار المستقل، ذلك أن الاستقلال دون سلطة ونفوذ ليس ذو قيمة، وحتى وقت قريب، كانت بريطانيا واحدة من الدول الثلاث الأكثر قوة وتأثيرا داخل الاتحاد الأوروبي. ولكن بعد مغادرتها سيكون للعالم الحق في التساؤل عن سبب وجود مجموعة صغيرة من الجزر في شمال الأطلسي يحق لها أن تكون عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي.
وبالمثل، من السهل القول إن بريطانيا ستوقع صفقات تجارية مع عشرات الدول بعد مغادرة السوق المشتركة للاتحاد الأوروبي؛ ولكن يتعين على المرء أن يتساءل عن مدى فائدة هذه الصفقات بالنسبة لأمة قطعت علاقاتها مع شريكها التجاري الرئيسي، الاتحاد الأوروبي، وكرجل أعمال أنا دائما أنصح بتجنب التوقيع على صفقات طويلة الأجل من موقع ضعف.
بعد عام من الخروج من الاتحاد الأوربي فقدت الإيديولوجيات الوطنية الضيقة في بريطانيا بريقها وأصبح بالإمكان سماع أصوات المعتدلين بشكل أكبر وإجراء مناقشة أعمق للآثار المترتبة على مغادرة الاتحاد الأوروبي. في الواقع، كانت هناك انتخابات عامة أخرى في المملكة المتحدة، لكنها كانت غير حاسمة إلى حد ما، ومن الصعب تفسيرها. خاصة وأنه لم يعترض أي من الحزبين الرئيسيين على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن العديد من النواب في كلا الطرفين يعارضون التخلي عن السوق المشتركة للاتحاد الأوروبي.
وقد دعت تيريزا ماي للانتخابات وسط أجواء من حالة فوضى تعتري صفوق المعارضة، وهو ما دفع ماي للاعتقاد بأن ذلك سيدعم توجهاتها لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن ما حدث هو العكس حيث خاضت ماي حملة انتخابية ضعيفة وفقدت الأغلبية وارتفع الدعم لحزب العمال المعارض –رغم أنها تمكنت من البقاء في منصبها كرئيسة للوزراء، ويبدو أن هذه النتيجة غير الحاسمة قد حدَّت من اندفاع ماي للخروج البائن من الاتحاد الأوروبي، ولكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة مستعدة أو قادرة على تغيير المسار.
وقد أضعفت تلك الانتخابات موقف رئيسة الوزراء والدعاة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعززت بالمقابل من موقف القلقين من عواقب مغادرة الاتحاد الأوروبي، وكان أن أقدمت أعداد هائلة من الشباب على التصويت في هذه الانتخابات –على غير عادتهم- مدفوعين بهواجس التأثير السلبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على مستقبلهم.
وتبقى المشكلة هي عدم وجود حركة وطنية كبرى واضحة المعالم يتوحد القلقون من الخروج من الاتحاد الأوروبي في إطارها، ذلك رغم أن النواب الموالين للاتحاد الأوروبي عملوا على تجاوز حالة الانقسام السياسي في محاولة للعثور على أرضية مشتركة بينهم.
حتى أن الخبراء الذين تحدثت معهم هنا في لندن يبدو أنهم غير متأكدين مما سيحدث الآن، وكيف ستتم عملية الخروج من الاتحاد الأوربي، وبعد عامين آخرين من الآن قد تكتشف كتلة كبيرة من البريطانيين أنه لم يكن هناك داع للبريكست من أساسه.
إن العالم المعولم الذي نعيش فيه اليوم معقد، بل ومخيف أحيانا، وبدلا من إضاعة الجهود الرامية إلى وقف العولمة – وكأننا نستطيع جميعا العودة إلى اقتصادات القرى ما قبل الصناعية – فإن الحل هو إدارة العولمة لضمان وصول المنافع إلى المجتمع، مع الحفاظ على الاستقرار والنمو الاقتصاديين.
هكذا تبدو بريطانيا اليوم أمة تتحرك في الاتجاه الخاطئ بعيدا عن فوائد التجمعات الاقتصادية الإقليمية والقيادة العالمية المتشابكة، ولا عجب أن العديد من الأصوات الأكثر ذكاء وبعدا للنظر في المملكة المتحدة تصرخ حاليا من أجل التعقل وتبني نهجا جديدا.