عرب أوربا.. فرصة أم محنة؟

قد ابتُليَ هذا الشرق البائس بتركيبة دينية طائفية سياسية اجتماعية أسهمت على الدوام في تمزُّقه واستنزاف ثرواته، وفيما تجاوز الآخرون عصور الظلام والتناحر وتفرَّغوا إلى بناء حضارتهم، لا زلنا في منطقتنا نستحضر خلافات مذهبية وتاريخية وعشائرية حدثت منذ مئات وربما آلاف السنين، ونستخدمها في إزكاء صراعاتنا البينية الدامية.

كتبت في مقالي السابق عن “العرب في أوربا” مستفيدا من معايشتي اليومية لهم خلال إجازتي الصيفية الآن في لندن وتنقلاتي بين عدة مدن أوربية، وأجد أن العربي يعيش في وطنه منقوص الحقوق، خائفٌ من الغد، غير مطمئن لمستقبله أو مستقبل أبنائه، يتملُّق الآخرين طوعا أو كرها، يتقلّب ولائه ويتبدل انتمائه إلى الوطن تارةً أو الأمة أو العشيرة أو العائلة تارةً أخرى، يبحث عن فرصة للنجاة من واقعه المرير،  فيجد في دول الغرب ضالته.

لكن هذا العربي ذاته، ما أن تحط قدماه أرض دولة غربية، حتى تبدأ مشاعر الحنين وتأنيب الضمير تنتابه، ويجد أن الفردوس المفقود الذي ينشده في الدول الغربية هو في الواقع حياة منظمة لشعوب تألفت من أعراق شتى، وتتطلب انتاجية جميع أفرادها، فيبدأ بالانكفاء على ذاته، ويدخل في عزلة، لا يستطيع العودة إلى جحيم بلده ولا يستطيع الاندماج في المجتمع الجديد.

وفي مجتمع الانفتاح الغربي، حيث كل شيئ متاح إلا ما هو مقيد بقانون وضعي، يبدأ العربي أيضا بعزل ابنائه عن المجتمع، يريد من ذلك الحفاظ على عاداته وتقاليده “الأصيلة”، وهذه حرية شخصية وحق له، ولكن هل من حقه انتقاد حرية الناس الشخصية في اللباس والمأكل والمشرب والعلاقات ونمط العيش؟، هل بحث عن الحرية التي فقدها في بلاده من أجل استخدامها في التحريض على المجتمعات الغربية التي وفد إليها؟ بل ومحاولة تغيير تلك المجتمعات بما يتناسب مع العادات التي تركها ورائه في مجتمعه؟

أنا أُدرك تماما أن التعميم خطأ كبير، فهناك عرب في أوربا نفخر بهم إلى أقصى حد، وهم قدَّموا خدمات جليلة للمجتمعات الغربية، في الطب والعلوم والأدب وغيره.

لكن ما حصل في السنوات الأخيرة بعد ما سُميَ زورا وبهتانا بـ “الربيع العربي” هو أن موجات بشرية كبيرة من الدول العربية التي ابتُليت بهذا “الربيع”  المزعوم نزحت نحو كل أصقاع الأرض تقريبا، ووصل بعضهم إلى دول مثل هندوراس وتشيلي، وطبعا زادت نسبتهم إلى حد كبير في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة، وقد أحسنت تلك الدول وفادتهم بشكل متفاوت.

في ظل هذه الظروف هل من المنطقي أن يجلس عربي في أوربا يأكل ويشرب على حساب الأوربيين دافعي الضرائب، ويتمتع بأجواء الحرية والمساواة والحقوق، ثم يتغنى بشرقه البائس؟ ، هل يعقل أن يتبنى الجهاد لتفجير الناس لمجرد أنهم مختلفين عنه؟ هل يمكن أن يتغنى عربي بإيران “النووية” وعندما يريد اللجوء يختار أي دولة في العالم عدا إيران؟ هل إيران دولة منفتحة على العمالة الأجنبية مثلا؟ ما هي أعداد العمالة الأجنبية في دولة يفترض أنها نفطية وغنية مثل إيران؟. إيران التي تقول إنها تدعم الشعب السوري وخياراته وتقف إلى جانبه هل استقبلت لاجئا سوريا واحدا حتى الآن؟

لقد بدأت بعض الدول العربية تهتم بـ “سعادة” شعوبها، وهذا توجه جيد نشجع عليه، لكن في أوربا هناك تقارير تصدر دوريا منذ عشرات السنوات عن معدلات السعادة، وأحد هذه التقارير أشار إلى أن أسعد دول الأرض هي : السويد، وهولندا، وسويسرا ، والنرويج ، فيما تربعت الدنمارك على رأس القائمة العالمية، القائمة التي أتى في ذيلها دول عربية كثيرة من بينها اليمن والعراق والصومال وسوريا.

الدنمارك ليس أغنى بلد في العالم، لكن الدنماركيين واثقون بحكومتهم وببعضهم البعض، وبالغرباء أيضا، لديهم أعلى مستويات الشفافية، ولديهم شعور عالي بالأمان، فحين يفقد الشخص عمله، بامكانه الحصول على تخصيصات، وعند المرض يتعالج في المستشفى بالمجان، أما الثروة فهي في المرتبة الثالثة، كما أن الدنماركيين من بين الذين يدفعون أعلى الضرائب في العالم دون أن يحد ذلك من مستوى سعادتهم.

في كل أزمة فرصة، والفرصة متاحة أمام “عرب أوربا الجدد” في إثبات ذاتهم وقدرتهم على الانتاج والاندماج، وبناء المستقبل بعيدا عن المساعدات الحكومية، بل والتعرف عن كثب على نتاجات الحضارة الحديثة من علوم وفنون، وهضمها وإحضارها إلى بلادهم عندما تحين فرصة ذلك. أليس هذا ما نسميه بالتلاقي الثقافي الحضاري المثمر؟

لقد بنت الولايات المتحدة الأمريكية نهضتها الحديثة كمحصلة لتمازج الخبرات والحضارات التي حملها المهاجرون الأوربيون من إنكليز وفرنسيين وأسبان أولا، ثم الصينيين واليابانيين وغيرهم من الآسيويين ثانيا، لذلك يجب أن يكون العرب فرصة لأوروبا لا عالة عليها.

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s