العيد فرصة للالتقاء وتبادل التهاني السعيدة، والسؤال والاطمئنان على الأهل والأصدقاء، وإقامة اللقاءات الأسرية الكبيرة في أجواء من البهجة والسرور لكن بعد مرور الدقائق الأولى من المعايدة ينتقل الناس عادة للحديث في القضايا العامة والأوضاع السائدة، والتي لا يبدو أنها أوضاع تسر العرب والمسلمين.
أحب قراءة التاريخ، ولكن هذه عادة تجلب لي الإحباط في كثير من الأحيان، خاصة عندما أرى الأخطاء ذاتها تتكرر مرارا عبر الزمن في ظروف تكاد تكون متماثلة وتؤدي للنتائج الكارثية ذاتها، أحب معرفة الأسس التي بنيت عليها الإمبراطوريات، لكن ما أجده بين السطور هو مجرد قادة طامعون يبحثون عن مجدهم الشخصي وإن كان تحقيق ذلك يتطلب سفك الدماء ونشر الدمار، حتى لتبدو لي أن فترات الازدهار والإعمار التي شهدتها مناطق العالم عبر التاريخ لم تكن سوى “هدنة مؤقتة” بين حربين.
إذا منحت إنسانا سلطة فعليك أن تحذر تجبره وفساده، لكن أكثر أشكال السلطة خطورة هي رغبة أصحابها أن يصبحوا قادة حرب وليس زعماء سلام.
علينا أن نشن حربا على أولئك الذين يدعون للحرب ويمجدونها، خاصة أولئك الذين لم يختبروا ويلات الحروب، معتقدين أنها تطبيق عملي للعبة بلاي ستيشين ينتهي بنصر سريع نظيف، ومتناسين أن بإمكانهم إشعال الحرب لكنهم لن يستطيعوا إطفاءها بذات السهولة، وإذا أردت أن تعرف الحرب على حقيقتها اسأل السوريين واليمنيين ليجبونك أن الحرب هي الجحيم، وأن من يشعلها هم القادة الأغبياء.
أتذكر أنه في بريطانيا بعد انتخاب توني بلير رئيسا للوزراء في عام 1997 اعتقد الجميع أنه سيغير البلاد نحو الأفضل، لكن بعد بضع سنوات فقط أخذ رئيس الوزراء هذا البلد إلى حربين أجنبيتين في أفغانستان وكذلك في العراق التي شنت الحرب فيها تحت ذريعة وجود أسلحة دمار شامل، وهكذا أصبح البريطانيون الذين صوتوا لصالح بلير يتحدثون عنه الآن باشمئزاز؛ وربما حتى كمجرم حرب، وفي حين أن أن اللوم على أخذ الدولة للحرب يمكن أن يقع على زعيم واحد في بعض الأحيان، إلا أنه لا ينبغي لنا أن نعذر تماما أولئك الذين يرغبون في اتباعه بشكل أعمى إلى المعركة.
بالمقابل نرى أن الأمة التي تتجنب الحروب تزدهر، لأن جميع مواردها الطبيعية والبشرية تستخدم على نحو منتج لصالح الوطن، وأولئك الذين يسعون لبناء مجدهم الشخصي ومجد أمتهم من خلال الصراعات يأتون بالخراب على الجميع، أما أولئك الذين يسعون إلى المجد من خلال الخير والسلام يرسمون معالم مضيئة في تاريخ البشرية.
في الأسبوع الماضي، بينما كنت أرتب أفكاري معا لكتابة هذه المقالة، سمعت أخبارا عن هجوم إرهابي في لندن، شعرت بتوجس عميق من وجود ضحايا لا ذنب لهم ولعلائلاتهم، وحزنت لأن أصابع الاتهام سيتم توجيهها مرة أخرى إلى المسلمين تحت ذريعة الإرهاب.
لكن ما حدث هذه المرة هو أن شخص متطرف غير مسلم هاجم مسلمين خلال تأديتهم للصلاة فيما شكَّل واحدةً من العديد من الهجمات الانتقامية الأخيرة ضد المسلمين، ولقد كان رئيس الوزراء البريطاني محقا عندما قال إن ما حدث ليس إلا هجوما إرهابيا بسبب طبيعة الجاني. ورغم ذلك استحوذ إحدى تفاصيل هذا الهجوم على انتباهي ومنحني بارقة أمل.
بعد الهجوم، قام عدد من الناس بسحب الإرهابي من سيارته وأمسكوا به فيما الدماء تغلي في رؤسهم غضبا، لكن أحد الأئمة تدخل وقدَّم الحماية لهذا القاتل لمدة العشرين الدقيقة التي استغرقها وصول الشرطة، لقد كان من السهل ترك هذا القاتل ممزقا، إلا أن الإمام فعل شيئا أكثر أهمية.
ديننا يخبرنا أن قتل نفس واحدة يعادل قتل البشرية جمعا، وإنقاذ نفس واحدة يعادل إنقاذ البشرية جمعاء، وإمام المسجد أرسل بتصرفه هذا من حيث يدري أو لا يدري رسالة للعالم حول ما هو الإسلام حقا، كدين عدالة وتسامح واحترام للإنسانية، وليس دين عنف وانتقام كما يعتقد الكثير من غير المسلمين ومن المسلمين أنفسهم.
إن الاعتداء الذي يقدم عليه إرهابي مسلم يجعل كل المسلمين في العالم في دائرة الشك، ولكن تصرف مسلم واحد وفقا للمبادئ الخيرية الحقيقية التي ينص عليها الإسلام يجعل العالم كله يوازن ويفهم الإسلام على حقيقته كدين عدل وتسامح.
ربما نحتاج الكثير الكثير من المسلمين الحقيقيين الشجعان أمثال هذا الإمام حتى نعطي العالم فرصة التعرف على الإسلام بشكله الصحيح، ونمحي ما يعمل المتطرفون، وربما الكثيرون منا يمكن أن يملكوا صفات الشجاعة والكرم والحب للبشرية وغيرها من الخصال الحميدة التي تشجع وتجذب الناس للإسلام.
نأمل أن يأتي العيد القادم ونحن كأمة عربية وإسلامية في حال أفضل، بل حتى وفي أفضل حال.
جوان
27
2017