عندما تدخل الأمبراطوريات مرحلة الضعف سرعان ما تتكالب عليها الأمم من حولها، أعداء وحتى أصدقاء، يدخلون في منافسة على إرثها وسرقة أراضيها. ربما كان لدى القوى المنتصرة التي حاربت هتلر قضية مشتركة حتى اللحظة التي دخلت فيها الدبابات إلى برلين؛ ولكن في غضون شهور، كانت أمريكا والأوروبيون والروس يتنازعون حول غنائم الحرب. كان ستالين بالطبع الأكثر قسوة وأخذ معظم أوروبا الشرقية لنفسه.
هذا السيناريو التاريخي يتكرر الآن في سوريا والعراق، حيث تتبارى قوى محلية وإقليمية وعالمية على السيطرة على الأراضي التي خرجت عن سلطة الدولة المركزية في دمشق وبغداد وباتت مرتعا لسلسلة من النزاعات متعددة الأطراف، ومن الواضح أن تركيا ترغب في وجود منطقة سيطرة لها في شمال سوريا، خاصة وأن هذا يعني منع الجماعات الكردية المختلفة من إقامة دولتها هناك. كما تشعر تركيا بالقلق من حصول الأكراد والميليشيات الشيعية على سيطرة دائمة في مناطق شمال غربي العراق.
وإيران هي أكبر المستثمرين على الإطلاق في جماعات المرتزقة المسلحة في كلا البلدين، ومن المؤكد أن إيران هي المستفيد الأكبر –وربما الأوحد- من تفكك العراق وسوريا من أجل كسب آلاف الأميال من الأراضي، إما تحت سيطرتها المباشرة، أو سيطرة حلفائها. وبالمثل، فإن بشار الأسد، الذي لم يكن له أي مصلحة في قتال داعش من قبل، بات يريد فجأة استعادة نفوذه الخاص في مناطق سيطرة التنظيم شرق سوريا، قبل أن يأخذها الآخرون منه.
يتحدث الأمريكيون عن عدم رغبتهم في الانخراط في سوريا، ولكن يبدو أنهم يشعرون بقلق بالغ إزاء تمدد الجماعات المناوئة لهم على الأرض، وقد قاموا بالفعل بشن ضربات جوية ضد قوة بقيادة حزب الله هاجمت قاعدة لحلفاء الولايات المتحدة بالقرب من الحدود الأردنية قبل بضعة أسابيع.
الطرف الوحيد الذي لا يبدي أي اهتمام في إحراز موطئ قدم في إقليمي سوريا والعراق هي الدول العربية؛ إما لأننا كعرب نشعر بشرف كبير جدا لعدم مشاركتنا في عملية الاستيلاء على تلك الأراضي أو لأن العالم العربي يغط في نوم عميق ولم يلاحظ حتى أن هذا يحدث. واترك الحكم هنا للقارئ الكريم.
إسرائيل أيضا تتطلع بهدوء إلى تأمين مصالحها الخاصة في جنوب سوريا، حتى لا تكون هناك دولة أخرى (تهيمن عليها إيران) على حدودها الشمالية.
لكن ما يبدو أنه قد فات جميع تلك الأطراف في سباقهم على الغنائم هو أن كل قطعة أرض من هذه الأراضي الفارغة كانت تعود حتى وقت قريب لأسرة سورية أو عراقية، وقد اضطر أهلها إلى الفرار من داعش، لكنهم يؤمنون أن إقامتهم الآن خارج أراضيهم مؤقتة وإن طالت.
السوريون في مخيمات اللجوء الذين أرغمتهم الميليشيات الطائفية وقوات النظام السوري على ترك بيوتهم يكرهون بشار الأسد ويريدون الانتقام منه، لكنهم في الوقت ذاته لن يرضوا أن تهيمن على أراضيهم دولة أجنبية، وسيغضبون أكثر إذا سعت القوى الغريبة إلى منعهم من العودة إلى أراضيهم بشكل نهائي.
هل نعتقد أن السوريين سيتخلون عن كبرياءهم وينسون أرض آبائهم وأجدادهم حتى بعد 20 أو 50 عاما؟ بالطبع لا، والـ “لا” هنا أكبر من الـ “لا” التي يفعلها الفلسطينيون. والأحداث التي تجري الآن تزرع بذور لصراعات في المستقبل التي قد تستغرق قرونا قبل أن يحصل أصحاب الأرض الشرعيين على حقوقهم ويتمكنون من العيش فيها بسلام.
نسمع عن العائلات السنية التي منعت من العودة إلى ديارها من قبل البيشمركة أو الميليشيات الشيعية بتهم التعاطف مع داعش- رغم أن داعش عذبهم وقتل أقاربهم وأجبرهم على المنفى-. وينبغي علينا فهم أن ادعاءات الأكراد والميليشيات الشيعية هذه ما هي إلا عمل ممنهج لسرقة الأراضي من أصحابها الشرعيين.
لقد عانت أقليات مثل اليزيديين والتركمان والمسيحيين من عذابات شديدة في ظل تنظيم داعش، وينبغي دعم هذه الجماعات وحمايتها حتى تتمكن من إعادة بناء حياتها، ولكن يجب أيضا بذل جهود من أجل إعادة مظاهر التسامح والعيش المشترك، حتى لا تدخل المجتمعات المختلفة في دائرة مفرغة من اللوم والاتهامات والانتقام من الانتهاكات التي تعرضت لها، خاصة وأن التوترات الطائفية الناجمة عن أحداث السنوات الأربع الماضية تبقي الباب مفتوحا أمام عودة هذه المناطق إلى حالة من الحرب الأهلية؛ وبمجرد أن تبدأ البنادق سيكون إيقافها أكثر صعوبة.
في أجزاء كثيرة من أفريقيا خلال القرن التاسع عشر غالبا ما استولت القوى الاستعمارية المختلفة على الأراضي، ليس بهدف الاستفادة منها، ولكن لمجرد منع خصومها من ذلك.
تركيا، على سبيل المثال، قد تخلق لنفسها ألف أزمة في المستقبل من خلال محاولة الاستيلاء على الأراضي السورية، ولكن ربما تشعر الآن أنه يجب منع إيران والأكراد أو الأميركيين من السيطرة على الفناء الخلفي لها، ومن المرجح أن يؤدي هذا المنطق الإمبريالي إلى صراعات مستقبلية أكثر مرارة في مناطق من العراق وسوريا.
إذا لم يلعب العالم العربي أي دور في هذا الصراع، فعلى الأقل يجب أن يلعب دورا أكثر حزما في منع الأطراف الخارجية الطامعة من التنافس على رفات دولة عربية، وذلك من خلال إرغام إيران على الاعتراف بأنه ليس لها دور في مستقبل هذه الدول؛ ومن خلال مساعدة الأكراد والأتراك على التوصل إلى تفاهم قبل أن يصوبوا أسلحتهم على بعضهم البعض، ومن خلال طرح رؤيتنا الخاصة كعرب لمستقبل سوريا والعراق، والتي تضمن الاستقرار الإقليمي وتمنع التدخل من قبل الجيران ذوي المصالح الاستمارية.
نحن نشكو من التدخل الإيراني، لكن إيران لم تتمكن من ذلك التدخل إلا بسبب فشل العالم العربي في النهوض بدوره في دعم الدول الشقيقة وإعطاء الأولوية للاستقرار والسلام الإقليميين، وسوريا والعراق ستبقيان أبدا دولتين عربيتين أصيلتين، ولكن دعونا لا نسمح للقوى المتنافسة أن تعتقد حتى ولو للحظة أن أراضي هاتين الدولتين مباحتين أمامها.