عندما ننظر إلى خارطة الخليج العربي، تبدو لنا وكأنها سفينة كبيرة بستة أشرعة؛ تكاد تكون متساوية الأهمية رغم اختلاف حجمها، واستدارة أي شراع خلافا للتوجه العام للسفينة ستسمح للرياح العاتية بتمزيقه، وإضعاف باقي الأشرعة.
يدرك هذه الحقيقة كل مهندسو البيت الخليجي، من زعماء مجلس التعاون، الذين بادرو إلى تشييد أركان هذا التكتل السياسي الاقتصادي الاجتماعي منذ العام 1981، وعملوا على الدوام على تحصينه ضد الأطماع الخارجية منها وحتى الداخية، وفيما فشلت محاولات كثيرة من أجل “توحيد الأمة العربية” أو أجزاء منها على الأقل، مثل الوحدة بين مصر وسوريا، واتحاد الجمهوريات العربية الذي ضم إليه ليبيا أيضا، بقي مجلس التعاون الخليجي صامدا منيعا، بل ويزداد قوة وحصانة.
بل إنه في بعض الأحيان تصدى مجلس التعاون الخليجي لمشاكل عربية خارج إطاره، وتمكنت دول الخليج العربية من توحيد موقفها إزاء قضايا الأمة مثل حرب اليمن، والقضية الفلسطينية، والغزو العراقي للكويت وغيرها.
ومن المؤلم لي، كمواطن عادي، أن أرى وأسمع ما يجري الآن من خلافات طفت على السطح بقوة مع إحدى الدول الخليجية، وأنا بالفعل لست مهتما بتقصي الحقائق لأعرف المخطئ من المصيب، وأطلب بل وأناشد الجميع أن يبادر إلى العفو والتسامح وتغليب لغة العقل والمصلحة العليا المشتركة.
إن قوتنا تنبع من الداخل، من وحدتنا، وإدراكنا لمصيرنا المشترك، وليس من الخارج المتلون الباحث عن مصالحه، وعلينا هنا في الخليج العربي ألا نسمح أبدا بأن تكون أرضنا مكانا لتنازع القوى الكبرى، وأن نجتهد لتكون بوصلتنا الدائمة هي مصلحتنا المشتركة كأشقاء، ونغلق كل الأبواب والذرائع التي قد يستخدمها أحدهم لشق الصف.
وعندما تنشأ اختلافات بين هذه العائلة، يجب أن نبادر إلى معاجلتها بحكمة وصبر بدلا من الغضب، ومما يؤسف له هنا هو أن وسائل الإعلام الاجتماعي تُظهِر أسوأ ما في بعض الناس، الذين يتربصون للهجوم على أخوتهم وجيرانهم عند أول فرصة وأصغر موقف، وأيا كانت أسباب وعوامل نشأة تلك الخلافات -التي أمتنع عن إصدار حكم بشأنها، فإن اليقين هو أننا سنكون عاجلا أم آجلا أمام مصالحة، وفي تلك اللحظة سيدرك الجميع مدى ضحالة أولئك الذين أطلقوا التهم جزافا ولم يدخروا جهدا في صب الزيت على النار.
يجب أن نحذر دائما، بل وأن نعمل على عزل أولئك الذين يسعون إلى استغلال هذه الاختلافات وتوسيع نطاقها، ولا يجب أن نفتح المجال أمامهم لتضخيم التوترات، فشعوب الخليج العربي عائلة واحدة تجمعها روابط الأخوة والدم، ومن غير المنطقي أن نسمح بتمرير محاولات شق صف هذه العائلة والإساءة إليها.
إن الخلاف داخل مجلس التعاون الخليجي يشبه الصراع في البيت الواحد، حيث يدرك الجميع أن الجميع خاسر، وأنه لا مجال أبدا لإيصال الأمور لنقطة اللاعودة، فالقطيعة بين دول مجلس التعاون الخليجي غير ممكنة نهائيا، لأنها ستكون قطيعة بين شقيق يريد ألا يكلم شقيقه المقيم في الغرفة الأخرى من المنزل.
لقد آن الأوان لوسائل الإعلام التي دأبت على التغريد خارج سرب البيت الخليجي أن تدرك أنها إنما “تطلق الرصاص على قدميها”، وأن تعي أن الظروف الإقليمية والدولية تغيرت، وأن أدوات الظهور والانتشار والتأثير تطورت، والوجوه القديمة استُهلكت، ومن الذكاء امتلاك المرونة والقدرة على مواكبة معطيات السياسية الحديثة بدل التقوقع داخل الأطر والأهداف القديمة.
يجب أن تستمثر دول الخلجي العربي قوتها الاقتصادية الهائلة في لعب دور سياس أكثر بروزا على الساحة الدولية، لكن يجب أن يكون هذا الدور متناغما ومتفقا عليه داخل البيت الخليجي، والمال الخليجي الوفير يجب أن يستثمر في التنمية والبنية التحتية والصحة والتعليم وتحقيق المزيد من الرفاه للمواطنين وضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة، وفي الأعمال الإغاثية والتنموية على الساحة العالمية.
لدينا في هذه المنطة من العالم ما يكفي من المشاكل والتحديات، بل لقد أصبحت بعضا من مشاكلنا مشاكل للعالم أجمع، لدينا الأزمة السورية التي طالت أكثر من اللازم دون ظهور ضوء في آخر النفق حتى الآن، وكذلك المشكلة العراقية التي ما أن انطفأت في مكان حتى اشتعلت في مكان آخر، والمشكلة الليبية التي توقد تحتها الكثير الكثير من الأيادي، إضافة إلى الاستقرار الهش في تونس ومصر وغيرها.
لسنا بحاجة لمشاكل جديدة، ولسنا بحاجة لفتح المجال لإشغال أو تدخل خيرنا بمشاكلنا، ولقد تمكنت دول الخليج العربي سابقا في حل مشاكل المنطقة عبر التدخل الإيجابي كما حدث في اتفاق الطائف الذي أنهى 15 عاما من الحرب الأهلية في لبنان، كما بذلت دول الخليج دائما مساعي حميدة لرأب الصدع بين حركتي فتح وحماس، وبين الفصائل السودانية المتناحرة، والصومالية أيضا، وغيرها، والأوضاع الراهنة تفرض زيادة مسؤولية دول الخليج العربي تجاه التدخل الإيجابي لحل مشاكل المنطقة، فيما الخلافات الداخلية الخليجية ستؤدي إلى إضعاف هذا الدور.
الرهان على الخارج خاسر دائما، إيران وأمريكا وروسيا وبريطانيا دول تبحث عن مصالحها، وإن كان الخطر الإيراني داهم وأكبر، والنهج الذي اختطته دول الخليج العربي لنفسها طالما أثبت صوابيته، وأي تطور في الفكر والعمل السياسي والاقتصادي لدى قيادات تلك الدول يجب أن يصب في هذا التوجه، تحت مظلة خيمة مجلس التعاون الخليجي، وعمودها الأساسي: المملكة العربية السعودية.