العقل قبل الجسد

 

في بداية حياتي المهنية، قبل فترة طويلة، كان تنفيذ فكرة إعلانية ما على لوحة ورقية يعتبر اختراقا كبيرا في مجال التسويق والترويج ورفع نسب المبيعات، وبعد مسيرة حافلة بالخلق والابتكار في مجال الإعلان، وبحلول العام 2000، بدأت بالتخارج رويدا رويدا من العمل اليومي لصناعة الإعلان، لأسمح لجيل جديد من الشباب المزودين بمهارات العصر الرقمي (الديجتال) بشغل مفاصل العمل الإبداعية في الشركة من جهة، وأضمن استمرارية ريادة شركتي الإعلانية ومواكبتها لمعطيات التطور الحديثة من جهة أخرى.

هذه هي دورة الحياة، التطور أو الجمود المفضي للموت، تقديم الجديد أو الخروج من السوق، الابتكار أو الاكتفاء بالاستهلاك، إبداع نظم المعلومات الجديدة وتسخيرها لمصلحة العمل أو فتح المجال أمام المنافسين الجدد لاقتناص مزيد من عملاء الشركة.

التحدي الأساسي هنا هو أننا كعرب توقفنا منذ زمن طويل عن الابتكار، أو لنقل إن فترات النهوض والتنوير كانت محطة قصيرة في قطار التخلف الذي ركبناه بإرادتنا أو رغما عنا.

نحن نحتاج اليوم مثلا لبيع عشرين برميل نفط حتى نتمكن من شراء جهاز آيفون واحد، لا تبلغ قيمة البلاستك الداخلة في صناعته بضعة دولارات قليلة، كما أن العشرين برميل من النفط ربما لا يوازي ثمنها سعر زجاجة عطر شانيل، أو ثمن بطاقة مشاهدة مباراة كرة قدم في أوربا!.

إنه الابتكار الذي يضفي القيمة على الأشياء، الابتكار في التكنولوجيا، وفي الترويج لعطر شانيل، وفي كرة القدم، وجعلنا مشدوهين للحصول على الإيفون أو العطر أو أقدام اللاعبين، وكأننا سنموت إن لم نحظ بهذه الأشياء، فيما الأشياء الحقيقية التي لا يمكن الاستغناء عنها مثل النفط والطاقة تصبح بلا قيمة.

نحن غير موجودين على خارطة صناعة التكنولوجيا عالميا مع الأسف، ولا نسمع بأسماء عربية كثيرة على قائمة مصممي البرمجيات ومهندسي تكنولوجيا النانو والميكانيكا بدون طيار كما هو الحال ليس مع الأمريكيين والأوربيين بل حتى مع الروس والهنود وغيرهم،  والنتيجة هي أن جزء كبير من ثروة هذه المنطقة تذهب لشراء التكنولوجيا المستوردة، بدلا من أن يجري استثمارها مرة أخرى في تطوير تكنولوجيا محلية.

والأنكى من ذلك أننا كنا نتحسر على عدم قدرة التعليم والمؤسسات التعليمية في وطننا العربي بشكل عام على اللحاق بركب العلوم ومنظومة المعرفة والتعليم الحديثة، لكن وفيما نترقب تطور تلك المؤسسات حدث ما هو أسوأ وغير متوقع، وهو وجود جيل كامل من السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين الذين يمكن أن يعتبروا أنفسهم محظوظين إذا تمكنوا من الحصول على فرصة لمحو الأمية!.

لطالما راهنت بل وآمنت بقدرة التعليم على تخليص أمتنا من براثن الجهل ونقلها إلى مصاف الدول المتقدمة، وربما أكون واحدا من المحظوظين القلائل الذين تسنَّت لهم فرصة الحصول على تعليم جيد، بعيدا عن مؤسسات التعليم الخاضعة لسطوة النظام الحاكم والتي تهتم بغرس أفكار النظام وإيديولجيته في نفوس الطلبة أكثر من اهتمامها باللغات والرياضيات والفنون.

واليوم علينا أن نسأل: هل يبذل القائمون على التعليم لدينا جهودا من أجل خلق منظومة تعليمية تحفز الطلاب على التفكير والابتكار أم أن منهج التلقين ما زال سائدا؟ وهل توفر العملية التعليمية مخرجات قادرة على أخذ زمام المبادرة وخلق فرص العمل لها ولغيرها أم مجرد باحثين عن وظيفة العمر في القطاع الحكومي؟

يجب أن ننمي في نفوس الناشئة حب التعلم قبل حب الحياة، لأننا نبدأ حقا في الحياة بشكلها السليم عندما يفتح التعليم آفاقنا إلى أقصى حد ممكن.

لقد جرى تطوير معظم التكنولوجيا التي نستخدمها لجمهور يتحدث باللغة الإنجليزية، مع وجود محاولات تعريب لا تبدو أنها كاملة، وهكذا سمحنا للاستعمار الفكري بالعودة مجددا من الفناء الخلفي: السيارات اليابانية، والأسلحة الأمريكية، والأدوات الصينية وبرامج الكمبيوتر الألمانية. نحن مستهلكون ولسنا مبدعون.

والمشكلة الأخرى هي أن ألمع الخريجين لدينا غالبا ما يصطدمون ببيئة عمل خاملة قاتلة للمواهب غير قابلة لاستيعاب المهارات والأفكار الجديدة، والمأساة هي أن العديد من هؤلاء الخريجين يعتبرون أنفسهم أكثر حظا من الجميع إذا نجحوا في الانضمام إلى هجرة الأدمغة والعيش في الخارج.

عندما لا يكون هناك استثمار في قطاع التكنولوجيا، فإن فرص العمل والترقية لا علاقة لها بالجدارة، ولن نخلق أبدا مناخا يًقدَّر فيه التميز التعليمي ويطمح الشباب إلى تحقيق نتائج بارزة، ويكون البديل هو تعزيز ثقافة الرداءة من خلال المؤسسات التعليمية والطلاب الذين لا يرون شيئا خاطئا في تحميل أطروحتهم من الإنترنت.

وينظر إلى كل دفعة جديدة من الخريجين التي تنتجها جامعاتنا كمشكلة يجب التعامل معها؛ بدلا من النظر إليهم كموارد يمكن أن تخلق الازدهار والتقدم لمجتمعنا.

أنا في الحقيقة يجب أن أشيد بتوجهات مملكة البحرين ممثلة في مجلس التنمية الاقتصادية في وضع قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ضمن القطاعات الأربع الجديرة بالدعم والتي يعوَّل عليها في تنمية الاقتصاد، وبدور صندوق العمل “تمكين” أيضا في هذا المجال، وأدعو لتسريع استقدام وتوطين “مسرعات الأعمال” ذات الصلة بالقطاع التقني ومن بينها التكنولوجيا المالية “فِن تِك” وغيرها.

أنا متفائل دائما، ولا أبحث عن الشكوى والتذمر، لكن ما أبحث عنه هو الاعتراف بالمشكلة لدينا، وتشخيصها بشكل صحيح حتى نتمكن من اقتراح حلول لها.

 

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s