ناقش برنامج وثائقي عرضته “CNN” مؤخرا ما اذا كانت اسرائيل تتحول إلى دولة دينية على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأظهر البرنامج كيف أن أقلية دينية متطرفة من اليهود الأرثوذكس في القدس تستخدم العنف والتهديد الممنهج لإنفاذ وتعميم تفسيرها الضيق الخاص بالتعاليم الدينية على جميع شرائح المجتمع؛ بما في ذلك الفصل بين الرجال والنساء، وحظر النشاط يوم السبت، ومنع الأنشطة الثقافية التي تعتبر غير متوافقة مع الشريعة اليهودية.
في ظل الأجواء التي فرضتها هذه الأقلية، يمكن للمرأة أن تتوقع التعرض لهجوم لاذع وحتى اعتداء إذا سارت غير مصحوبة بولي أمرها، كما أن “شرطة الأخلاق” هناك دأبت على مضايقة النساء اللاتي تعتبر ملابسهن أو سلوكهن غير مناسب، وأيضا جرى التخلي عن مشروع ثقافي ضخم في القدس مؤخرا بعد تخريب المتطرفين اليهود لأعمال البناء، وذلك في نماذج لأنشطة التخويف والتخريب الممنهجة التي ينظر إليها على أنها تكتيكات مشروعة لتحقيق الأهداف اللاهوتية.
مقدم البرنامج الوثائقي على CNN أشار إلى حالة استياء تسود المجتمع الاسرائيلي من أقلية أصولية تفرض ممارساتها على بقية المجتمع شبيه بتلك التي كانت سائدة في إيران إبان الثورة الإسلامية عام 1979، لكنه أوضح أن الرفض العلني لذلك يعرض صاحبه للتشهير أو حتى للاعتداء الجسدي.
واحدة من أكثر جوانب الحياة إثارة للقلق بالنسبة لليهود المتطرفين هو حقيقة أن الأطفال هناك يرسلون غالبا إلى المدارس الدينية لمدة 12 ساعة يوميا، 11 منها يدرسون التعاليم الدينية، وهذا يعني أن نسبة متزايدة منهم لا تتمكن من معرفة أين تقع كندا، ولا يعرفون شيئا عن التاريخ، وليس لديهم أي من المهارات أو المعرفة اللازمة لسوق العمل أو العالم الحديث.
معظم اليهود الأرثوذكس المتطرفين عاطلين عن العمل، ويخلقون استنزافا متزايدا لنظام الاستحقاقات في إسرائيل، حيث يتحمل عدد أقل من العمال عبء دعم بقية المجتمع، وفي بعض الحالات يقضي الرجال حياتهم كلها في دراسة الكتب المقدسة ويرسلون نساءهن إلى العمل، ومن المتوقع طبعا أن هؤلاء النسوة يعدن بعد يوم عمل طويل ليقمن بواجباتهن في العناية بالمنزل ورعاية الأطفال وإعداد الطعام.
وقد أدى التأثير القوي للأحزاب السياسية المتشددة إلى إرغام الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على توفير فوائد سخية على نحو متزايد لهذه الفئة غير النشطة من السكان، في وقت يزداد فيه الضغط من أجل تشديد القوانين الدينية، وتعميمها حتى داخل صفوف الجيش.
ومن الجدير بالملاحظة أنه من النادر أن تركز وسائل الإعلام الغربية على مناخ التضييق على الحريات الاجتماعية السائد في إسرائيل، ذلك رغم أن العديد من الدول العربية تجد نفسها تتعرض للهجوم من قبل وسائل الإعلام يوميا لأسباب مماثلة.
إن اليهود الأرثوذكس المتدينين في القدس يظهروا لنا ما الذي سيحدث عند المضي قدما في تطبيق نهجهم إلى أبعد الحدود؛ مع فصل الرجال والنساء قسرا، وشباب حفظوا الكتب الدينية ولكن ليس لديهم المعرفة أو الميل للمساهمة في اقتصاد البلاد، وقطاع واحد من المجتمع مهووس تماما في إجبار بقية المجتمع على التصرف كما يفعل، والنظر إلى اليهود الإسرائيليين الآخرين باعتبارهم من اليهود غير الملائمين الذين لا يكادون يستحقون العيش في دولة إسرائيل، على أرض يعتبرون أن الله منحها لهم، ولا يقرون بحقوق ملايين الفلسطينيين بالعيش في هذه الأرض.
قال الله تعالى في كتابه الحكيم “لا إكراه في الدين”، فإذا اخترنا أن نقضي حياتنا كلها في المسجد وقراءة الكتب المقدسة، فإن هذا يكون تضرعا لخالقنا، وليس لأن آبائنا أو أقراننا قد أجبرونا على ذلك، وهذا لا يخلق سوى الاستياء تجاه شيء ينبغي أن نقوم به بإرادتنا الحرة.
والأكثر خطورة من ذلك هو قيام السلطات الحاكمة بفرض أجندة الممارسات الدينية، لأن السياسة تفسد الدين دائما والعكس بالعكس. الحكومة الإيرانية مثلا تغسل أدمغة متطوعين ترسلهم إلى سوريا بإعلامهم أن مهمتهم هناك هي حماية الأضرحة الدينية، فيكيف يستقيم ذلك في عقولهم عندما يجدون أن ما يقومون به في سوريا هو ذبح المدنيين الأبرياء؟. كما يستغل داعش والحشد الشعبي الكتب الدينية لتبرير الجرائم ضد الإنسانية؛ ويصف اليهود المتطرفون الفلسطينيين على أنهم من البشر الذين يمكن قتلهم بشكل مشروع، كما نرى هنا عمليات غسيل دماغ لأطفال ودفعهم لارتكاب أعمال شغب وحرق وقتل شرطة وتخريب قراهم، بعد إيهامهم أن تلك الأفعال هي واجب ديني!.
المتطرفون اليهود والمسيحيون والإسلاميون سيئون على حد سواء، وكلهم مستعدون لاستخدام أكثر الوسائل عنفا لإجبارنا على اتباعهم وتنفيذ تعليماتهم، ومشاريعهم لا تحمل الرفاه والخير للبشرية، بل هي مشاريع صراع ودمار.
يجب أن تنهض نخبة تقدمية شجاعة تقف في وجه من يريدون السيطرة على المجتمع باسم الدين، وصباغته كله بلون واحد، وإنزال العقاب بحق المختلفين، ويجب أن تكون هذه النخبة على أهبة الاستعداد للتحدث والتصرف لحماية أسلوب حياتها من قلة متطرفة. إننا نعيش في عالم جميل ومتنوع ويجب أن نكون أحيانا مستعدين للقتال من أجل حمايته.