عليَّ الاعتراف أنني أصبت بحيرة إزاء الظروف الدقيقة التي أدت إلى نشوب الحرب الكلامية بين تركيا من جهة والدنمارك وهولندا ودول أوربية أخرى من جهة أخرى، وتبادل منع الوزراء من الزيارة، واتهام تركيا لهولندا بالفاشية والتصرف مثل “جمهوريات الموز”.
رغم ذلك، اعتقد أن هذا الخلاف هو أحد أعراض ظاهرة أوسع بتنا نراها تتصاعد في جميع أنحاء العالم، أساسها فشل الدبلوماسي أن يكون دبلوماسيا.
القادة الذين رفضوا العمل وفقا لقواعد الدبلوماسية رسموا عن أنفسهم صورة نادرة مسلية، ولازالت خطابات شخصيات استثنائية مثل القذافي وهوغو شافيز وأحمدي نجاد مثارا للسخرية ومادة للتسلية، خاصة عندما يخرج هؤلاء القادة عن النص ويبدأون بإلقاء الكلام جزافا مختلقين أعداء وهميين وناسين أو متناسين احتياجات ومطالب شعوبهم، فيما عمدت دول مثل كوريا الشمالية وإيران إلى انتهاج سياسات خارجية مبنية بالكامل على استعداء المجتمع الدولي.
نشهد على نحو متزايد تصاعدا في حدة اللغة الدبلوماسية، بل وتبادلا للشتائم بين سياسيين ومسؤولين، ولقد كانت صدامات حادة من هذا القبيل تحدث بين الشعبين الفرنسي والبريطاني عندما يتعلق الأمر بالكرامة الوطنية، إلا أن سياسيو البلدين سعوا على الدوام للحفاظ على الحد الأدنى من الأعراف الدبلوماسية والاحترام المتبادل، لكن في الأشهر الأخيرة عادت حدة التوتر لتتصاعد بين الدبلوماسيين البريطانيين من جهة والأوروبيين من جهة أخرى على خلفية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وظهر الدبلوماسيون هناك أقل التزاما بالأعراف الدبلوماسية وأكثر ميلا للانجرار خلف الرغبة الجامحة في تبادل الشتائم.
لكن بالمقابل يظهر توجه أو جيل جديد من السياسيين الأوروبيين منتسبي اليمين المتطرف المعادي للأجانب، والذين يعتمدون على الظهور والوصول إلى المناصب على رفع شعارات معاداة الإسلام والأجانب والانفتاح، ومناهضة حكوماتهم وسياسيها المعتدلين، ومع الأسف نحن نرى أن فرص هؤلاء اليميننين في قيادة مجتمعاتهم تزداد مع قرب الانتخابات في عدد من الدول الأوربية.
في الحالة البحرينية اعتاد السياسيون الايرانيون وحسن نصر الله توجيه التهديدات والادعاء بأن البحرين هي “المحافظة الإيرانية الرابعة عشرة”، في وقت يرزح فيه المواطنيين الإيرانيين تحت وطأة فقر شديد وبعضهم يسكن المقابر، وتعصف العقوبات الغربية بالاقتصاد، ويحقق الجيش انتصارات وهمية على شاشات التلفاز فقط، وهذا كله يجعل من تلك التهديدات عديمة القيمة.
والنتيجة هي أن الدول التي تتبنى نهج التهديات والشتائم ستجد نفسها مضطرة في نهاية المطاف إلى وضع “العنتريات الدبلوماسية” جانبا وإعادة ترميم وبناء العلاقات مع الغير.
في العام 2015 وصلت العلاقات بين تركيا وروسيا إلى الحضيض بعدما أسقطت تركيا طائرة روسية مقاتلة، لكن حادثة أخرى تمثلت في اغتيال السفير الروسي في معرض فني في أنقرة آواخر العام 2016 أظهرت حرصا كبيرا من الطرفين على عدم الانجرار مجددا خلف متاهات تبادل الشتائم والقطيعة، والدبلوماسيون الذين كانوا يتبادلون الشتائم قبل أشهر ظهروا أنفسهم ليأكدوا أن حادثة الاغتيال لن تعكر صفو العلاقات بين الطرفين.
في لحظة احتدام الأحداث يمكن للسياسيين رفع شعبيتهم من خلال الصراخ وتهديد الدول الأجنبية، وهذا يعطي انطباعا بأنهم أقوياء وقادرون على خوض غمار التحدي، لكن على المدى الطويل، وعندما تعود الأمور إلى نصابها الطبعيي وتهدأ الأحداث، يظهرون كأغبياء غير قادرين على الخروج من ورطتهم.
ربما اعتقد السياسي البريطاني بوريس جونسون أنه اتخذ خطوة سياسية ذكية جدا عندما حصل على جائزة “حرية التعبير” عن قصيدته الوقحة للغاية التي كتبها عن الرئيس أردوغان والماعز، ومن الواضح أن جونسون لم يكن يعرف في ذلك الوقت أنه في غضون بضعة أشهر سيتم تعيينه وزيرا للخارجية، وأن أول زيارة رسمية له ستكون إلى تركيا!.
تميل الدول لأن يكون لديها ذكريات طويلة جدا في الدبلوماسية، وبالتالي يمكن للشتائم الصغيرة أن يكون لها تأثير سام على العلاقات المتبادلة لفترة طويلة قادمة، لا سيما عندما تستمتع وسائل الإعلام في تذكير الجميع بتلك الحوادث في كل مناسبة ممكنة.
إن سيد الإهانة الدبلوماسية حاليا هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان قد أساء في غضون عدة أيام من بدء حكمه إلى الرؤساء والدبلوماسيين المكسيكيين والاستراليين والصينيين، فضلا عن حظره السفر لرعايا عدد من الدول الإسلامية، وفي الواقع نجد أن معظم الوظائف العليا في وزارة الخارجية الأمريكية لا تزال فارغة بعد أن جرى فصل معظم كبار الدبلوماسيين خلال الأيام الأولى ترامب، وهذا سبب آخر يوضح لنا لماذا علاقات أميركا الدبلوماسية مع عدد من الدول لا تزال هشة.
وزراء الخارجية المخضرمين يغضبون جدا عندما تفشل المفاوضات أو لا تكلل جهودهم بالنجاح، ومع ذلك يكظمون غيظهم، و”يتركون للصلح مطرح”، مدركين أن أكثر ما يحتاجون إليه هو الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة مع نظرائهم، من أجل التوصل إلى حل في المستقبل القريب أو البعيد.
العلاقات الدبلوماسية بين دول مجلس التعاون الخليجي مثالا يحتذى، حتى عندما تظهر خلافات حادة على ملف من الملفات، هنا أو هناك، يقوم الدبلوماسيون الخليجيون بعمل ممتاز في التعامل معها وراء الأبواب المغلقة، حفاظا على وحدة وتماسك دول مجلس التعاون، وعدم السماح للأعداء بالنيل منها.
ربما ننظر بسخرية إلى خبر يقتصر على القول إن “الجانبين استعرضا التعاون المشترك والعلاقات الأخوية”، لكن هذا ما يجب أن يكون في حال كان البديل إخراج الخلافات إلى العلن وفتح المجال أمام تصعيد التوتر وتبادل الشتائم.
نحن نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى لأن تعمل الدول المتحضرة مع بعضها البعض بشكل وثيق لمعالجة مجموعة واسعة من القضايا ذات الأولوية في جميع أنحاء العالم، في سوريا واليمن والعراق وليبيا، إضافة إلى قضايا اللجوء والفقر والأمراض، ولا يمكن للعالم أن يتحمل رؤساء ودبلوماسيين يهدرون مقدرات دولهم في الانخراط بنزاعات تافهة، أو حتى محاولة النيل من بعضهم البعض عبر افتعال حروب بالوكالة هنا أو هناك.
لكل ذلك دعونا نأمل عودة سريعة للجماليات والتقاليد الدبلوماسية في عالم يقود توجهاته دبلوماسيون بكل ما في الكلمة من معنى.