أسمع أعداداً متزايدة من الناس تعبير عن إحباطها من تسميات “سنة” و”شيعة”، وكأن هذه التسمية تمنح خصوصية ومواصفات معينة للبشر من هذا المذهب تميزهم بالمطلق عن الناس في المذهب الآخر، كما أنها تضفي طابعا خاصا على قرية أو منطقة معينة فقط لأن أهلها يتحدرون من هذه الطائفة الطائفة أو تلك.
إن وضع هذه الانقسامات جانبا والنظر إلى أنفسنا كعرب يعني عودة صحيحة إلى الهوية الجامعة التي توحدنا وتجمع بين مختلف مكونات المجتمعات في بلادنا أكثر من أي شيء آخر. لقد كنا عربا قبل أن نكون مسلمين، بل حتى قبل ظهور الدينات السماوية كالمسيحية واليهودية، واللغة العربية نفسها تعود إلى عصور غابرة في القدم، وبفضل القرآن والأدب الجاهلي احتفظت هذه اللغة بكثير من طابعها القديم والجميل.
الأمر المسلَّم به بشأن التوترات والصراعات بين السنة والشيعة هو أن النصر لن يكون حليفا لأحد، إضافة إلى أن هذه الصراعات الآن، وعبر التاريخ، صراعات ذات خلفيات سياسية وليس دينية.
عندما ننظر إلى الصراعات في ليبيا وسوريا، نرى أن كثيرا من الناس الذين أطلقوا شرارة الأحداث هناك لم يعد لهم أي دور في المشاركة بها الآن، لقد خرجوا من الساحة تماما لتحل مكانهم جماعات متطرفة وقوى أجنبية، وإنه من المحزن بشدة التحدث مع بعض السوريين من الشباب والعاطفيين الذين خرجوا إلى الشوارع بحثا عن الحرية والديموقراطية، معتقدين أن بإمكانهم جعل بلدهم مكانا أفضل للعيش، وخاب ظنهم بعد أن استيقظوا على حقيقة أن العالم من حولهم ليس مثاليا، وجزء كبير منهم يعيش الآن في مخيمات اللجوء ينظر إلى بلده من بعيد ويسأل ماذا حل به وبهم.
إن القوى الخارجية التي تخوض في هذه الصراعات المعقدة لديها مصلحة في دعم كل أطراف الصراع على الأرض، وإن بنسب مختلفة، وليس هناك من دولة عظمى تستثمر في تلك الصراعات أو تنشر قواتها خارج حدودها إلا إذا كان ذلك يحقق مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والتوسعية.
لكن تاريخ دخول القوى الأجنبية في الصراعات الأهلية كان دائما يزيد من سعار دائرة العنف والدماء وتمددها، والشيء نفسه يحدث عندما تحاول سلطة أقوى فرض سيطرتها على إحدى الدول من جيرانها الأضعف، عندها يستجمع شعب تلك الدولة شتاته وقواه ويتوحد في مواجهة العدو الخارجي الأجنبي.
لقد كان الاتحاد السوفياتي واحدا من أعتى القوى العظمى على وجه الأرض، فيما كانت أفغانستان واحدة من أضعف وأفقر الدول، لكن السوفييت هزموا في نهاية المطاف على يد مقاتلين أفغان استماتوا في الدفاع عن وطنهم، حينها لعبت الولايات المتحدة دورا كبيرا في استغلال المقاتلين الجهاديين ضد السوفييت، فكانت من حيث لا تدري تخلق عدوها الخاص، تنظيم القاعدة، ويمكن للمرء أن يحسد الأفغان لأنهم أوغلوا في القوتين العالميتين العظتين، ولكن عندما تنظر إلى الوضع المزري لهذه الأمة المجزأة التي لا زالت تقاتل نفسها منذ عقود، تجد أنه ليس هناك ما يحسدون عليه.
بإمكان روسيا أن تطلق العنان لأساطيلها الحربية في سوريا وتدمر كل في المدن والبلدات، ولكن سوريا لن تتوقف عن أن تكون سوريا، ودمشق لا يمكن أبدا أن تفقد هويته العربية، والروس والايرانيين يمكن أن يأتوا ويحتلوا سوريا متى ما أرادوا، ولكن الآن، وبعد ألف سنة، ستبقى سوريا دولة عربية بفخر، وبعد فترة تطول أو تقصر سينسى الجميع أن الروس والإيرانيين كانوا حتى هناك.
كلبناني، يمكنني أن أقول بفخر أن اللبنانيين أكثر تقدما بكثير من المواطنين في سوريا أو ليبيا، لكن هؤلاء اللبنانيين أنفسهم دمروا لبنان خلال عقود الطائفية والحرب الأهلية، وبعض ممن نجا من أمراء تلك الحرب لا زال موجودا، ويحاول على ما يبدو إعادة إشعال المعارك ذاتها، والدخول في دوامات الخصومات والانتكاسات التي لا نهاية لها.
لا زالت لدى بعض المسيحيون في لبنان وبعض السنة والشيعة رغبات دفينة في رمي بعضهم البعض في البحر كما كان الحال عليه قبل 40 عاما، والواقع أن تعقيدات النظام السياسي اللبناني الغريبة تميل لتحالف المسيحيين والمسلمين معا ضد الفصائل المتنافسة في نفس الدين أو الطائفة، حيث تجد أن جانبا من السنة يتحالفون مع طهران ونظام بشار الأسد ضد فئات أخرى من السنة، أو أن حزب الله يتحالف مع المسيحيين لتهميش جماعات شيعية منافسة له.
يمكن القول إن هذه خلافات وتحالفات مؤقتة بحسب متقضى الحالة، لكن هل من المنطق أن يبقى السنة والشيعة على طرفي نقيض بسبب خلافات سياسية حدثت داخل الدين الإسلامي قبل أكثر من 1400 سنة؟، ذلك رغم أن الحقيقة الظاهرة كالشمس، والسر الذي يعرفه الجميع، هو أن الخلافات والتناحر بين السنة والشعية تصب في مصلحة المتطرفين، وأن الأطراف الخارجية ذات الأجندة السياسية طالما تدخلت ورسم لنا حدود وشكل هذا التناحر. الجميع يعرف ذلك والجميع مستمر في نفس الطريق.
أستطيع النوم باطمئنان في سريري وأنا أؤمن في قرارة ذاتي أن كل ما يحصل في سوريا وليبيا واليمن لن ينتزع هذه الدول من عروبتها، حتى مع وجود الحدود السياسية المصطنعة، وحتى مع تغير معالم تلك الدول.
عندما تكرس حياتك لقضية القضاء على أولئك الذين يختلفون عنك، سيتم القضاء عليك في نهاية المطاف، أما عندما تكرس نفسك لخدمة أخوك الإنسان ستخلد ذكراك الطيبة للأبد.