أحب لبنان كثيرا، البلد الذي ولدت وتعلمت فيه وأنشأت عائلتي وبدايات أعمالي، ومع ذلك، يعتصر الحزن قلبي عندما أدرك أن لبنان، بلد الفكر والثقافة والحرية والتجدد والابداع، لم يعد سوى ذكرى جميلة للأشخاص من جيلي، وتحول لبنان الذي غنته السيدة فيروز “لبنان يا قطعة سما” إلى لبنان قطعة الكيك التي تريد كل قوة طائفية حاكمة أن تنهش أكبر حصة منها، فيما تترك المواطن حائرا بتدبير أمور حياته اليومية البسيطة.
غادرت لبنان مع زوجتي وطفلي الصغيرين بعد يومين من تاريخ 13ابريل 1975، اليوم الذي تصاعدت فيه الاشتباكات بين الميليشيات وجرى قتل 27 فلسطينيا بدم بارد إثر هجوم استهدف حافلة كانت تقلهم، ودخل لبنان ساعتها في أتون حرب أهلية دامت 15 عاما أطلق خلالها الجميع رصاصه على الجميع، وكل رصاصة وكل قذيفة كانت تصيب جزءا من لبنان الذي أعرفه، حتى سقط مضرجا بجراحه وقد أدمته الحرب.
لبنان الذي أراه اليوم يكاد يكون دولة فاشلة، ليس بالمعنى الصومالي لجهة قتال الميليشيات في الشوارع (على الرغم من أن هذا يحدث بين الفينة والأخرى ومن مكان لآخر)، ولكن بمعنى توقف الدولة نفسها منذ فترة طويلة عن العمل، وفشلها في النهوض بمسؤولياتها الأساسية تجاه المواطنين.
ورغم أنه لم يكن من المتوقع أن يبقى لبنان على مدى قرابة عامين بلا حكومة أو رئيس دون أن ينفجر، إلا أنه لدينا الآن مرة أخرى رئيسا وحكومة، ولكن سياسة حافة الهاوية الطائفية تعني أن خدمة الجمهور هي في ذيل قائمة الأولويات.
لا زال ماثلا في الأذهان ما حدث في منتصف العام 2015 عندما توقف حال لبنان بسبب أزمة القمامة التي تراكمت في أكوام ضخمة في كل شارع، لأن الدولة فشلت في العثور على بقعة أرض مناسبة للتخلص منها، وأثار هذا الأمر احتجاجات كبيرة اشتكلى خلالها المواطنون من فشل الدولة في توفير الخدمات الأساسية.
كنت قد افترضت أن هذه الأزمة تم حلها منذ فترة طويلة منذ ذلك الحين، لكن في الواقع لا زالت المشكلة مستمرة، بل وخلقت مجموعة جديدة تماما من المشاكل. على سبيل المثال، جذب مكب نفايات مؤقت قرب مطار بيروت أسرابا كبيرة من الطيور التي باتت تشكل خطرا فعليا على حركة الطائرات، فكان الحل السحري هو استدعاء أفواج من الصيادين وتزويدهم بالخرطوش اللازم لقتل هذه الطيور، وهذا ما كان بالفعل!.
من الأمور التي لا يقبلها العقل البشري هي السماح لأزمة القمامة في التفاقم إلى درجة باتت تشكل خطر حقيقي ليس على الأرض والبحر فقط، بل على السماء أيضا حيث ربما تتسبب بسقوط طائرة وقوع عشرات أو مئات الضحايا، بالمقابل جرى على الفور حل أزمة جمع القمامة في البحرين التي نجمت عن سوء إدارة انتقال العمل من شركة إلى أخرى منتصف العام الماضي، وقد بذل المسؤولين في الحكومة والنواب ما في وسعهم من جهود لضمان إبقاء معاناة الناس من هذه المشكلة في حدها الأدنى والأقصر.
على الرغم من أن الوضع في سوريا واليمن وليبيا كارثي إلى أبعد مدى، إلا أن لبنان ليس بمنأى عن الانفجار في أي لحظة، فهو يدار الآن من قبل نفس الفصائل والأفراد الذين حاربوا بعضهم البعض خلال الحرب الأهلية، ويستعر الاقتتال الطائفي تحت ستار سياسي، والكل يريد أن ينهش أكبر قطعة ممكنة من الكعكة، حيث توزيع المناصب يجري بناء على المحاصصة الطائفية وليس على الكفاءة، وكبار السياسيين يستمدون قوتهم وأسباب وجودهم من استقوائهم بهذه الدولة الأجنبية أو تلك، وليس بناء على ما يقدمونه لوطنهم، وهم كل الأحوال عاجزين على ممارسة سلطاتهم كما يجب أو اتخاذ أية قرارات ذات معنى.
بالمقابل، هناك دول كثيرة في العالم متنوعة الديانات والأعراق كما هو لبنان، لكن جميع سكان تلك الدول اتفقوا على أن الدين لله والوطن للجميع، وانصهروا في بوتقة المواطنة والانتماء للمصلحة العليا المشتركة لهم جميعا، والتي تتركز على النهوض بوطنهم وبناء مستقبل أفضل لأطفالهم، ولم يسمحوا لطغمة من السياسيين الفاسدين بالمتاجرة بالدين والسلاح والوطن.
أنا أكتب هذا المقال من مكتبي الرئيسي في البحرين، حيث برزت هنان مطالب في العام 2011 –ولا زالت بعض الأصوات ترددها- ببرلمان من غرفة واحدة وحكومة منتخبة، إلا أن هذه المطالب -وإن بدت ديمقراطية في الشكل- ستجلب بلا شك الكوارث على البحرين وعلى الشعب البحريني، وما علينا إلا أن ننظر إلى دول مثل لبنان والعراق وليبيا حتى نفهم لماذا!.
في عام 1975 انهار نمط معقد من التعايش في لبنان في غضون أسابيع، وتلاشت مظاهر الحياة الطبيعية، حتى أن شابا ملثما أراد قتلي عند حاجز تفتيش لمجرد أني رفضت أن أكشف له عن انتمائي، ولن أنسى أبدا الازدراء والكراهية التي بدأ الناس فجأة يعاملون بعضهم البعض وفقها فقط بسبب الاختلافات الصغيرة في الطريقة التي يمارسون فيها دينهم.
كثيرا ما أقول إن البحرينيين لا يدركون تماما كم هم محظوظون بنظامنا السياسي، نظام ليس مثالي ربما، ولكنه قيم خدمة المواطنين والاستجابة لتطلعاتهم متجذرة فيه، فنحن حبانا الله تعالى بملك أطلق ربيعا حقيقا من خلال مشروع إصلاحي مسؤول، ورئيس وزراء أحدث نقلة نوعية وتطورا مذهلا ماثلا للعيان، مع ولي العهد الذي يركز على مستقبل مزدهر وموحد لجميع البحرينيين.