حولت وسائل الاتصال والانتقال الحديثة العالم إلى سوق صغير مفتوح على جميع عمليات البيع والشراء لمختلف أنواع السلع والخدمات بكل العملات.
ومع شركات مثل أمازون – التي تبحث الآن إمكانية تخزين البضائع في السماء – تلاشت الحدود وطرق العرض والطلب والتوصيل التقليدية، ونظرًا للمنافسة الشديدة بين الشركات وبين الدول على توفير الأموال والأرباح والعوائد، بات الاستثمار متاحًا في كل المجالات والمناطق بعد أن تلاشت تمامًا العوائق الجغرافية والنقدية، لكن دون أن يعني ذلك تلاشي القيم التجارية الأصيلة، وعلى رأسها سمعة التاجر نفسه.
لطالما أشدت بمبادرات التحرر الاقتصادي، وتخليص الاقتصاد من تبعات الحماية المقيتة، التي لا تقود سوى للانغلاق والتقوقع والابتعاد عن التطور، فالتنافسية أساس التطور، وهي التي صنعت اقتصاديات مزدهرة في الغرب، فيما أوصلت السياسات الاقتصادية الشعبوية التي اتبعها زعماء ديماغوجيين مثل هوجو شافيز دولهم إلى حافة الانهيار الاقتصادي، ففي حين تعوم فنزويلا على بحر من النفط، تسودها الآن واحدة من أعلى معدلات الفقر في العالم، وقادة البلاد يلقون باللائمة على دول تتآمر عليهم، دون أن يقروا أن توزيع عوائد النفط على الطريقة التشافيزية جلب الدمار الاقتصادي لبلادهم.
ومن الطبيعي ألا يحظى أحد بحماية خاصة في ظل الاقتصاد الحر لمجرد أنه مواطن أو سليل عائلة ما أو لديه حق إلهي ما، بل إن الدول المتخلفة والمتقدمة على السواء تلهث خلف المستثمرين الأجانب، من القادرين على ضخ الأموال في شرايين اقتصادها وتوفير فرص العمل لشعبها ولغيره، وهذا يعني أن جنسية المستثمر هي آخر ما تنظر إليه الدولة الجاذبة للاستثمارات، فالمهم أولاً وقبل كل شيء ضخ الأموال جنبًا إلى جنب مع اللالتزام بالقوانين والتشريعات المحلية.
ورغم ما قد يتحدث عنه البعض من قواسم مشتركة بين رجال الأعمال من جنسية واحدة، كأن يميل الهنود للتجارة في الذهب، فيما يحبذ السعوديين الاستثمار العقاري، إلا أن «السوق العالمي» لا يعترف كثيرًا بتلك القواسم، فالأمانة والثقة موجودة لدى جميع الجنسيات بقدر ما هناك أفراد غير جديرون بها من مختلف الجنسيات.
في هذا «السوق العالمي» نحرص على أن يوسع أبناؤنا مسيرة نجاحاتنا التجارية، معتمدين على ما نقلناه لهم من علوم ومعارف ومهارات في مجال التجارة، وما نمرره لهم من أصول واستثمارات، لكن حرصنا الأكبر هو أن نسهل لهم طريق الدخول في شبكة علاقاتنا التي بنيانها عبر عشرات السنين بالعمل الدؤوب والثقة والسمعة الطيبة، وأن نجعل من اسمنا التجاري «صك ضمان مفتوح» يمكن لأولادنا أن يستخدموه بثقة لدى مختلف الكيانات المصرفية والاقتصادية والتجارية.
ونعلم أولادنا أيضًا أن المال لا يصنع السمعة، وأن السمعة صنعة، بمعنى أن الانسان هو من يصنع سمعته بأفعاله الحميدة، بصدقه وأمانته وإخلاصه، وهو من يدمرها بكذبه وخيانته.
نصل إلى حقيقة مفادها أن السمعة السيئة تلتهم صاحبها كالنار في الهشيم، ولا يجب أن يصبح الكذب والسرقة صنفًا من صنوف الشطارة وذكاءً خارقًا وطريقًا قويمًا لجني الأرباح السريعة.
لقد تعاملت على مدى ثلاثين عامًا مع شركات دولية عديدة مثل بي إم دبليو وماكدونالدز ونيفيا وجنرال موترور وغيرها، ولم ينشب بيننا أي خلاف أوصلنا إلى المحاكم؛ لأن المعاملات كانت واضحة صريحة وصادقة بيننا، ولم اضطر للجوء للمحاكم إلا بعد أن بدأت التعامل في الأسواق المحلية مع أشخاص مختلفين بعضهم لا يكترث بسمعته ولا يهمه سوى المال والربح السريع وليس بناء أعمال تستند على تاريخ من الثقة والعمل الجيد. لكن يبقى هناك بحمد الله الكثير من الشرفاء في مجتمعاتنا التجارية في الخليج العربي والوطن العربي يحرصون على سمعتهم وجديرون ببناء علاقات تجارية وحتى شخصية معهم.
لقد ترسخت في ذهني قصة مفادها أن الراغبين في الحج في الزمن الغابر كانوا يضعون أموالهم ومقتنياتهم الثمينة في عهدة أحد التجار، حيث كانت رحلة الحج تستغرق شهورًا، وترتفع احتمالات ألا يعود الحاج سالما إلى بلده نتيجة لمشقة الطريق وصعوبة المناسك في ذلك الوقت.
وكان أن جاء الرجل إلى دكان تاجر قماش في سوق الأقمشة، ووضع عنده عشر ليرات ذهب كأمانة، لكنه عندما عاد من الحج بعد أشهر التبس عليه الأمر فدخل دكانًا مشابهًا وطلب من التاجر فيه أن يرجع له ليراته الذهبية العشر، فما كان من التاجر إلا أن فتح خزانته وأعطاه عشر ليرات ذهبية. وعندما هم الحاج بالرحيل أدرك تمامًا أن ليراته عند تاجر آخر. عندها سأل الحاج التاجر: لماذا صدقتني وأعطيتني ما ليس لي؟ فأجاب التاجر: لقد خفت أن أجادلك فلا تقتنع، فاشتريت منك سمعتي التي لا تقدر بثمن!
هذه القصص العربية الأصيلة التي تربينا عليها منذ كنا صغارًا، واستلهمنا معانيها في بناء سمعتنا الطيبة والثقة التي نتبادلها مع كل أقراننا ونغرسها في أولادنا، في التجارة وفي الحياة بشكل عام.