كان العام 2016 صعبا جدا على الأمة العربية، واصلت الأهوال فيه نزولها واتساعها، وارتفعت معدلات ضحايا النزاعات بشكل غير مسبوق، فضلا عن بروز تحديات اقتصادية جمة.
ويكفي نظرة سريعة لــ “بانوراما” أحداث العام الذي نعيش اليوم ساعاته الأخيرة، حتى نرى حالنا وقد ازداد سوءا في ليبيا وسوريا والعراق واليمن وحتى مصر، لكني لن أطيل على القارئ قبل أن أعطيه جرعة من التفاؤل بأننا لم نستسلم بعد، ولن نستسلم أبدا، كما أننا لن ندع تلك الأهوال والتحديات تهزمنا من الداخل، وإذا لم نتمكن من توريث أبنائنا الانجازات والانتصارات فسنورثهم الحرص على التحدي ومواصلة الطريق وبناء أنفسهم وأمتهم وتمسكهم بالعمل ليجعلوا غدهم أفضل من أمسهم.
كم يثير إعجابي الأشخاص الذين يظهر معدنهم القوي في مواجهة الشدائد، ولا يسعني إلا أن أشعر بالتواضع عندما كنت جالسا إلى جانب صديق لا زالت لديه القوة ليضحك وينظر للحياة بإيجابة، فيما هو يكافح مرض السرطان الذي أنهك جسمه بعد أن بلغ مرحلة متقدمة جدا.
لا اعتبار لتحقيق مكاسب سهلة دون عناء يذكر، لكن الإقدام بشجاعة وصبر وتحدي على بلوغ إنجاز يبدو مستحيلا هو ما يجعلك كبيرا في عيون الناس وفي عين نفسك، يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ… فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ…كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ.. وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيمِ
كم يتحلى الفقير بكرامة عندما يقبل وضعه دون لوم أو حقد، ويكون دائما على استعداد للقيام بالعمل المضني من الصباح إلى الليل لإعالة عائلته، وينام برضى وكرامة وسعادة علما أنه سيضطر في صباح اليوم التالي لمواصلة العمل المضني ذاته، فالعظمة أن تتحمل الضربات التي يتألم منها الآخرين عادة، وتستجمع قواك في كل مرة وتنهض من جديد.
الرجل الضعيف دائما يلوم الجميع ما عدا نفسه عن الفشل، إذا فشل في الحصول على الوظيفة التي يريد يقول إن منافسيه تآمروا عليه، وإذا كان العالم العربي في وضع لا يحسد عليه يجب أن نمعن النظر في أنفسنا وأسباب ضعفنا قبل أن نلوم أمريكا أو إيران أو روسيا، وفي الواقع، تلك القوى ليست قوية إلا بقدر ما نحن ضعفاء، وتزاد قوتها ويتفاقم ضعفنا نتيجة عد ثقتنا بأنفسنا، وعدم توحيد قدراتنا ونستميت في الدفاع عما نؤمن به.
كتب الفيلسوف نيتشه بعض الأمور المثيرة للاهتمام للغاية عن الضعف، وأعطى مثالا على ذلك العبيد المتعصبين لسيدهم الذي قُتل، فلم يدفعهم ذلك لتجربة الحرية والاستقلالية، وإنما إلى استعباد وإضعاف الأقوياء من حولهم، فالعبد لا تستهويه الحرية، وإنما فرض العبودية على الآخرين، الشيء نفسه ينطبق على الضعفاء، فطموحهم ليس أن تصبح شخصيتهم قوية ويقودوا مصيرهم بأنفسهم، وإنما النيل من الأقوياء والمنافسين حتى يصبح الضعف حالة عامة مستشرية، وبالتالي لا يلامون على ضعفهم.
نحن كعرب نكون أقوياء عندما نتوقف عن الاعتقاد أن قوتنا تعتمد على الانتقام من أولئك الذين هم أقوى منا، فالقوة في المقام الأول هي احترام الذات، والابتعاد عن الكذب والتدليس والظلم.
المحرقة لم تنهِ الشعب اليهودي، بدلا من ذلك، أصبح أولئك الذين نجوا من النظام النازي مثالا أمام البشرية عن القوة والكرامة، لكن الصهاينة الآن دمَّرروا تلك الصورة عن الشعب اليهودي عندما نصبوا محرقة للشعب الفلسيطي الراغب أيضا بالعيش وكرامة.
نحن جميعا عشنا تجربة الألم والانكسار والفشل، لكن قليلين منا صقلت هذه التجربة قواهم، وجعلتهم أكثر إصرارا وعنادا على بلوغ أهدافهم، أتحدث عنها عما يمكن تسميته “الغَلَبَة التي تأتينا من داخل ذواتنا، والغُلْبَة التي تأتي من الخارج”.
عندما ننظر إلى أنفسنا في العالم العربي على أننا حضر وبدو، فراعنة وفينيقيين، شيعة وسنة ودروز وأرثوذكس وكاتوليك، فإننا في الحقيقة نمايز ونقسم أنفسنا، وهذا ما يزيد من ضعفنا وتشرذمنا. البديل هو رفض قبول مثل هذه الانقسامات التافهة، يمكننا أن نقف معا ونبحث عن ما يجمعنا، كلنا نعيش على هذا الأرض منذ آلاف السنين، ولدينا لغة واحدة، وتاريخ ومصير مشترك، ونحن جميعا جزء من الإنسانية، ولدينا مصلحة في جعل عالمنا مكانا أفضل.
عندما نوحد قوانا، سنكتشف أننا نمتلك سويا قوة أكبر بكثير من أي وقت مضى، ولكن القوة هي عكس العنف، فالدول التي تلهث خلف امتلاك القوة الهدامة وتسعى للتوسع والسيطرة على مقدرات غيرها من الشعوب تحمل في ذاتها بذور فنائها، الآن أو بعد أجيال.
آمل أن العام الجديد سوف نفهم بشكل أفضل ما يعنيه أن نضع نقاط الضعف والدونية على جنب، وأن نكتشف ما تعنيه الحياة بحق، أن نعزز من اعتمادنا على أنفسنا كعرب لا أن نكتفي بإلقاء اللوم على الطامعين بنا، وأن ننهض بذاتنا ونفعل أكثر على صعيد تحقيق الانجازات الشخصية في العلم والعمل، وأن نتحرر من فكرة أن حكوماتنا يجب ان تقدم كل شيء لنا، وأن تفعل كل شيء عوضا عنا.