اسمحوا لي بداية أن أهنِّأ قيادتنا الرشيدة، وأهنئكم، وأهنِّأ نفسي، بمناسبة الأعياد الوطنية المجيدة. إن العيد الوطني في كل دول العالم هو مناسبة مهمة
سعيدة غير قابلة للنقاش أو التشكيك، وتدفع بالمواطنين تجاه تجاوز أية انقسامات طبقية أو طائفية أو عرقية أو إيديولوجية، واستذكار المنجزات، والتفكير بمستقبل أكثر أمنا وازدهارا.
في هذه الأوقات الصعبة، عندما ننظر إلى المنطقة من حولنا وقد انقلبت رأسا على عقب، ومزقتها الصراعات الداخلية والخارجية، ونسمع أنين الجرحى والأمهات الثكالى في حلب والموصل وبنغازي وصنعاء وغيرها، علينا أن ننظر أيضا إلى داخل وطننا، لنرى أننا نعيش في واحة من الأمن والاستقرار وسط إقليم مشتعل يكاد شرر نيرانه يتطاير لداخل حدودنا.
ألسنا كبحرينيين محظوظين بوجود حكومة وشعب يضعان السلام والاستقرار والاستمرارية في قمة الأولويات؟
أنا اعتقد حقيقة أن هناك طريقتان لحكم بلد: واحدة منها ينطوي على تنافس أيديولوجيات، ويسودها هاجس الثورة والتغيير الجذري (التغيير وليس بالضرورة التطوير)، فتحتدم المعركة للسيطرة على النظام السياسي لتحقيق مكاسب شخصية أو فئوية، أما الطريقة الثانية فهي العمل جديا لتحسين الأداء وخلق فرص العمل، وتوفير الخدمات وفتح الطرق وبناء المدارس والمستشفيات.
نحن غالبا نعتقد خطأَ أن هاتين الطريقتين تعملان معا جنبا إلى جنب، لكن الواقع يشير إلى أنهما ليستا بعيدتين عن بعض فقط، وإنما متناقضتين تماما، فالطريقة الأولى تسهم في إظهار ما يسمى “اللعبة السياسية” و”لاعبي السياسية” الذين يتصارعون على المناصب في جو من المنافسة المباح فيها استخدام أية وسيلة للوصول للغاية المنشودة، أما الطريقة الثانية فهي ما يمكن تسميتها بـ “العمل السياسي” الذي يفضي إلى وضع سياسات تعود بالنفع على المواطنين وتخلق فرص العمل وتنمي الاقتصاد.
النوع الأول من السياسة (اللعبة السياسية) يحظى بشعبية في أوساط واسعة عبر إثارة المشاعر والخطب الرنانة والوعود الخرافية، وبعد ما ثبت مرارا وتكرارا أن مثل هذه الديماغوجية لا تؤدي أبدا إلى بناء دول مزدهرة، يمكن لمرء أن يجادل أن النهج الثاني (العمل السياسي) المبني على أسس اقتصادية يبدو جامدا ومملا وبطيء التطور والاستجابة، ولكن يمكن الرد هنا بنقطة واحدة: إن أنظمة الحكم الناجحة لم تزدهر إلا عندما أوقفت أو توقفت اللعبة السياسة في دولها، وركزت على بناء قاعدة اقتصادية قوية.
بعبارات بسيطة، يمكننا أن نقول أن هذا هو السبب الذي حول الربيع العربي إلى كارثة، حيث أدخلت تلك الثورات بلادها في “لعبة سياسية” يريد كل واحد من أفرقائها فرض أجندته على البلد، ولم يكن هناك نضوج مجتمعي ووعي مشترك لدى شعوب تلك الدول حول شكل الحكم المطلوب إقامته والأولويات السياسية والاقتصادية، وإنما مجرد شعارات كبرى فضفاضة حول الديمقراطية والعدالة والحرية، وكانت النتيجة سقوط النظام السياسي القائم والدخول في عملية طويلة من الاستنزاف السياسي: إنها لعبة “آخر رجل يبقى واقفا” بعد أن يكون جميع المنافسين انهكوا أو ماتوا.
غني عن القول إن عدم الاستقرار يدمر الاقتصاد، ويخيف المستثمرين، ويقتل السياحة، وحول البلد إلى أنقاض.
هل أنا بحاجة إلى تقديم دليل إضافي على أن “اللعب” و “العمل” السياسي هما ضدين بالمطلق؟
يمكننا أن نرى أيضا أنه في حالة عدم الاستقرار الذي ينشأ من “اللعبة السياسية” يسفر عنه طفرة في الفساد، فتغيب أو تُغيب مؤسسات الرقابة والمحاسبة، ويشرع (الحكام السياسيون الجدد) في سرقة كل ما يقع تحت أيديهم بنهم شديد، لأنهم يدركون أنهم لن يبقوا في السلطة لفترة طويلة.
إن حكومة مملكة البحرين تلتزم بالإصلاح والتطور جنبا إلى جنب مع حفظ الأمن والاستقرار، وتعمل على تطوير النظام السياسي عبر الإصلاحات الدستورية وإتاحة الفرص أمام الجميع للعمل في الشأن العام عبر المؤسسات الدستورية مثل المجالس البلدية والنيابية.
البعض لا يريد أن يتعاطى بجدية مع رؤية البحرين 2030، رغم أنها ترسم مسارا واضحا في مجال الأعمال والتنمية، فمن الأهمية بمكان أن يكون هناك أهدافا واضحة، لنكون قادرين على متابعة الأداء وتقييمه، مثلا تقول الرؤية إنه بحلول هذا التاريخ فإننا سوف نحقق الهدف A و B و C ، وهذا ما يعطي معايير واضحة للمواطنين لتقييم التقدم المحرز بدلا من التذمر والادعاء بأن “الحكومة لا تفعل أي شيء بالنسبة لي”.
لقد وصل النمو الاقتصادي إلى 28٪، ونما متوسط دخل الأسرة منذ عام 2008 نسبة 48%، وتوسع القطاع غير النفطي ليسهم بنسبة 80٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا كله يؤشر إلى أن البحرين حققت تقدما كبيرا رغم التحديات الأمنية والاقتصادية غير المسبوقة.
ونحن أيضا يجب أن ننتبه إلى أن تعهدات الحكومة الواردة في رؤية 2030 هي تعهداتنا أيضا، فجميعا يجب أن يسهم بما عليه من دور وواجبات في تحقيق هذه التعهدات التي سننعم بها جميعا.
دعونا نضع ثقافة التبعية السخيفة وراءنا، خاصة وأننا في مجتمع الأعمال والمهنيين والأكاديميين والمثقفين في القطاعين العام والخاص، جمعينا معنيون بل مشاركون في عملية التنمية، وتقع علينا مسؤولية لعب دور أكبر في تأمين الرخاء للبحرين.
لقد أنعم الله علينا بقادة يضعون طاقاتهم في توفير السكن وخلق فرص العمل وتحسين مستويات التعليم، يعملون بالسياسة ولا يلعبون بها، هذه القيادة هي المعنية في المقام الأول بتوفير الرفاه للمواطنين، ولا تفرض نفسها على الأمور الروحية أو الطائفية، واستطيع القول من خلال تجربتي إن الحكومات تنجح عندما لا تفرض لونا دينيا واحدا على مجتمعها.
وبالمثل، فإن العديد من الدول الغربية التي كانت تنظِّر علينا وتدفعنا لتبني نماذج الحكم الرشيد انجرفت إلى اللعب بالسياسة بدل العمل السياسي، وأقوى أمة على وجه الأرض جعلت مجرد نجم لتلفزيون الواقع عديم الخبرة السياسية رئيسا لها!.
المواطن الصالح هو أولا وقبل كل شيء المبادر إلى رفع مساهمة في بناء أمته والبشرية جمعاء، وإن نجاح الحكومة ونجاحنا واحد، لذلك دعونا نتوقف عن الترهات وننشغل اكثر في نهضة بلدنا وتعزيز مسيرة أمنه واستقراره وازدهاره.