وسائل الإعلام كسولة قدر ما نسمح لها

Mr. Akram Miknasكم يكون الأمر محبِطاً عندما تتعامل وسائل الإعلام معنا بسطحية وسفاهة، فهل يشكك القائمين على تلك الوسائل بمقدرتنا على فهم قضايا الشئون الخارجية المعقدة؟ أم أنهم لم يجدوا الوقت الكافي أو لا يريدون تحمل عناء إعادة صياغة القصص الإخبارية وتقديمها بشكل مهني؟

أنا اشير هنا بشكل خاص إلى تقارير إخبارية جرى بثها طيلة الأسبوع الفائت حول الاستفتاء في إيطاليا والانتخابات الرئاسية في النمسا، حيث تفاجأت من طريقة التعاطي الإعلامي مع هاتين القصتين المختلفتين عبر جمعهما في تقرير واحد، والأعجب من ذلك أن يجري تناولهما بنفس الطريقة التي يجري فيها تناول ما يمكن أن يسمى ظاهرة دونالد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما ركز الإعلام في هاتين الدولتين على ما يحدث في أمريكيا وبريطانيا أكثر من تركيزه على ما يجري فيها.

وسائل الإعلام تحب ركوب الموجة ومواكبة التوجهات السائدة، حيث قررت هذا العام أن التوجه الحالي هو صعود اليمين الشعبوي حول العالم، وقيل لنا ان بريطانيا قررت ترك الاتحاد الأوروبي بسبب “صعود اليمين الشعبوي”، وخلال الحملات الانتخابية الرئاسية في أمريكا كان ترامب في وسائل الإعلام “مهرجا خاسرا بكل الأحوال”، وفي اليوم التالي لفوزه بالرئاسة اختلفت نغمات أصوات المعلقين في سي إن إن وبي بي سي، وعادوا للحديث عن أسطوانة “ارتفاع  اليمين الشعبوي”.

بالطبع يشكل صعود أفراد اليمين العنصري المتطرف في انتخابات ديمقراطية قضية مثيرة للقلق، وكنت قد ناقشت ذلك في مقالات سابقة، ومع ذلك، هناك خطر من محاولة إسقاط ذلك النموذج على كل ما يحدث في جميع أنحاء العالم أولا، وثانيا هناك مخاطر من قيام وسائل الاعلام بخلق نبوءة تحقق ذاتها من خلال إعطاء حجم هائل من التغطية الإعلامية لأولئك الأفراد المجانين، والذين يتم تجاهلهم في الحياة العادية.

بعد الانتخابات الأميركية صدرت تقديرات مفادها أن شبكات التلفزيون الكبرى مثل CNN و NBC أعطت دونالد ترامب تقريبا ثلاثة بليونات دولار من الدعاية المجانية من خلال منحه تغطية مثيرة، والاهتمام بكل تعليق مثير للجدل يصدر عنه، وأنا قد أكره كل ما يقوله، ولكن لا بد لي من الاعتراف بأن هذا الرجل عبقري في الدعاية لنفسه.

في عام 2011 شهدنا ظاهرة مماثلة مع انجرار وسائل الإعلام الكسولة خلف اتجاهات سائدة بشأن ما يسمى الربيع العربي، في تونس، خرج الناس إلى الشوارع وأسقطوا رئيسهم، وبعد أسابيع قليلة من ذلك اندلعت في مصر مظاهرات حاشدة مماثلة، وكان وسائل الإعلام محركا لاستخدام عبارة: “الشعب يطالب سلميا بالديمقراطية والحرية “.

قبل أن نصحوا من هول الصدمة لندقق بما يحدث، كانت وسائل الإعلام تبث تقارير مطولة شبه متطابقة حول ليبيا وسوريا واليمن وبدرجة أقل السودان وسلطنة عمان والبحرين والأردن والكويت ودول أخرى، وتعتمد على معلقين ذوي تفكير واحد في قناة فوكس نيوز، برس تي في، فرنسا 24، وروسيا اليوم، وفحوى تلك التقارير أن العرب جميعا قابعين تحت الاضطهاد من قبل الحكام المستبدين عديمي الرحمة الذين قضوا عقودا طويلة في السلطة، والآن الشعب يريد أن يكون حرا ويعيش بديمقراطية، لذا هو يتجمع الآن احتجاجات سلمية.

في إحدى رحلات العمل إلى الخارج في العام 2011، فوجئت بعدد الأشخاص الذين يسألوني عن معارك الدبابات في الشوارع في البحرين، وعن المتظاهرين السلميين التواقين إلى الديمقراطية، وكنت مضطرا لقضاء ساعات طويلة أشرح لهم خلالها الأمور على حقيقتها، وأقنعهم أن معلوماتهم حول مجريات الأحداث في البحرين بعيدة كل البعد عن الواقع.

أنا قلق لوصول معايير الحقيقة والصحافة النزيهة إلى هذا الدرك من الانحطاط، خاصة في عصر الإعلام الاجتماعي حيث يختلط الغث بالثمين والحقيقة بالإشاعة، والذي أسهم في سرعة انسياق الصحافة الكسولة خلف قوالب لا معنى لها مثل “الربيع العربي”، و”الإسلاميين المتطرفين” و “مثيري الشغب السلميين”.

وسائل الإعلام تستجيب ببساطة لطلبات المستهلكين. لذلك كلما بدا المستهلكون أكثر ذكاء وبذلوا المزيد من الجهد لفهم العالم من حولهم بعيدا عن الروايات الساذجة، كلما اضطرت وسائل الإعلام لمخاطبة عقولهم بعمق وتقديم الأدلة التي تبين مواقفها من هذه القضية أو تلك.

أعرف الكثير من الناس الذين يشكون بمرارة من الطريقة التي تعاطت –ولا زالت- وسائل إعلام مثل الجارديان ونيويورك تايمز مع الأحداث في البحرين على مدى السنوات القليلة الماضية، ولكن هل الشكوى من تلك التقارير غير العادلة تكفي؟ بالطبع لا. نحن نعيش في عصر نحتاج فيه 30 ثانية فقط لإضافة تعليق على موقع اخباري، وهذا لن يغير العالم بالطبع، ولكن لنا أن نتخيل النتيجة لو اشتكى عشرة آلاف بحريني في كل مرة تظهر فيها مثل تلك التقارير غير العادلة!.

يبدو هذا وكأنه الخيال، ولكن ما رأيك فيما يحدث في كل مرة تنشر فيها وسيلة إعلامية عالميا تقريرا لا يتفق مع الصورة التي ترسمها اسرائيل عن نفسها؟ عندها تجد جماعات اللوبي الإسرائيلي تحشد الآلاف من أنصارها للشروع في حملة تشويه سمعة، مع اتهامات بمعاداة السامية والتحيز، وهي حملات دفعت بوكالات أنباء عريقة مثل بي بي سي لفتح تحقيقات في بعض حالات تلك التقارير وطرد موظفين ونشر اعتذار بخنوع، وأرغمت وسائل الإعلام والإعلاميين على التفكير مرتين قبل نشر أي شيء عن إسرائيل.

في العالم العربي، ننفق الكثير من وقتنا في الشكوى حول الطريقة الظالمة التي يعاملنا العالم بها، ولكن بسبب فشلنا في القيام بأي شيء حيال هذا بشكل منظم سوف نستمر في سماع تقارير وسائل الإعلام العالمية حول أننا جميعا أصوليين وأن قادتنا طغاة لأننا لسنا مستعدين للديمقراطية.

وعندما يكون لدينا ما يكفي من احترام الذات لتحدي هذه الاتجاهات في وسائل الإعلام، ربما سوف نجد أن تلك الوسائل ستبدأ في معاملتنا بمستوى الاحترام الذي نستحقه.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s