ليس لدى خبراء الاقتصاد غالبا دراية كافية بالتاريخ، وقد أمضوا عقودا يناقشون أمرا اعتبروه من المسلمات، وهو أنه إذا رفع رجال السياسة أيدهم عن الأسواق، فإنها ستستمر بالنمو المفترض إلى الأبد.
لكن منذ الأزمة الاقتصادية في العام 2008 ظهر موقف أكثر حذرا يؤكد أهمية الحاجة إلى مزيد من تنظيم الجهود الدولية المبذولة لتحفيز النمو على مستوى العالم، ومع ذلك، لم نر مبادرات جدية ذات صلة، واستمر النمو لكن بشكل قلق وغير مستقر وغير طبيعي وغير عادل.
كثير من المؤرخين الغربيين مذنبون ومخطئون بقراءتهم وتحليلهم للقرون الخمسة الماضية عندما يخرجون علينا بنتيجة مفادها أن التقدم البشري هو شيء حتمي مسلم به، وهم يستندون في ذلك على دراستهم لنهج التطور في القارة الأوربية منذ 500 عام وحتى يومنا هذا، ويقدمونها لنا على أنها فترة من النمو المتسارع والتوسع ورفاهية البشرية وزيادة الثروة وتعزيز الحريات وزيادة التقدم العلمي، متناسين أو غافلين عن أجزاء كبيرة من المشهد التاريخي، وكيف أن قفزات واسعة من هذا النمو حدثت في كثير من الأحيان على حساب الشعوب الأخرى.
التأريخ العربي يختلف كثيرا، في المدارس نتعلم عن “العصر الذهبي” للحضارة الإسلامية لننتقل بعدها سريعا جدا لدراسة أجزاء أو مشاهد محددة من التاريخ الحديث مثل انهيار الخلافة العثمانية وتشكل الحدود السياسية للدول العربية والحروب ضد إسرائيل وغيرها، ولا أحد يعطينا صورة واضحة عن قرابة ألف سنة من التاريخ بين هذين الحقبتين.
نتيجة لذلك نرى أن إمكانية التراجع والتدهور وتخلف الأحفاد عن الآباء والأجداد هو شيء مألوف لدى العقلية العربية، ويمكن يكون لدى العرب عشرات أو مئات السنين من الإنجازات العلمية والرياضية والفلسفية، ثم فجأة ينهار كل شيء، ويمكننا طبعا إلقاء اللوم في ذلك على الصليبيين أو المغول أو حتى أنفسنا، ولكن هذا لا يحصل لنا بعيدا جدا عن فهم “لماذا سهم التقدم البشري لا يسير دائما إلى الأمام”.
لقد نظر المؤرخ ابن خلدون إلى التاريخ باعتباره سلسلة من الدورات: ارتقاء الدول والامبراطوريات وازدهارها في غضون بضعة أجيال لتعود بعد ذلك وتدخل فترة الركود والانحسار والانهيار، لتحل محلها امبراطوريات أو ممالك جديدة ذات “عصبية” فتية قوية، ويرجع سبب انهيار الامبراطوريات في رأي ابن خلدون إلى تفشي الضعف والانحطاط وقلة الكفاءة لدى أفراد الطبقة الحاكمة التي ترث السلطة من أسلافها الأشداء وتنغمس في ملذات الحياة، فضلا عن ضعف العصبية الواحدة الجامعة للإمبراطورية أو الدولة، وتحول الولاء إلى القادة المحليين وزعماء القبائل.
في التاريخ الحديث للعالم الغربي تعزز النمو الاقتصادي من خلال التقدم التكنولوجي والهيمنة على الموارد الطبيعية والثورات، مع توفر أدوات متع الحياة والسلع الرخيصة وأساليب الرعاية الصحية الحديثة ومكافحة الأمراض أمام الشخص العادي الذي بات يعيش اليوم في جو من الرفاهية لم يكن متاحا لملك قبل 200-300 سنة، لكن كل ذلك يجب ألا يعمينا عن حقيقة أن أجزاء واسعة من عالنا لا زلات ترزح تحت فقر وتخلف شديدين.
هل هذا التقدم الهائل في أساليب الحياة يعني أن الأمور يمكن فقط أن تسير في طريقها لتصبح أفضل وأفضل؟ وهل سيصبح متوسط دخل الفرد في العام 2300 مليار دولار شهريا مثلا؟، أليس هناك أسباب قوية تدعو للاعتقاد أن النمو المذهل في العقود السابقة كان شذوذا تاريخيا؟
لقد شهد القرن العشرين قفزة مفاجئة من عالم ما قبل الحداثة القائم على الزراعة والمنتجات المصنوعة يدويا إلى عالم آلي من وسائل الراحة المعاصرة، وتمكنت مراكز بشرية مثل دبي من تحقيق معدلات هائلة من النمو في ظرف عقدين ثلاثة.
حقيقة أننا نعيش جميعا خلال هذه الفترة المثيرة تقودنا إلى توقع أن التطور سيتواصل خلال العقود المقبلة بنفس الوتيرة، ومع ذلك، تبرز تحديات تراجع مصادر الطاقة، وتراكم الضرر البيئي وعدم الاستقرار السياسي كعلامات تحذير حول أن التقدم إلى الأمام ليس حتميا.
فالمعجزة الاقتصادية اليابانية بدأت تدخل في ركود طويل الأجل منذ منتصف التسعينيات، وأوروبا الآن غارقة في الفوارق الاقتصادية مع زيادة عدد الدول التي انسحبت أو تكاد من الاتحاد الأوروبي، كما أن التوترات بين روسيا والغرب تشير إلى بوادر حرب باردة –وربما ساخنة- جديدة.
لقد تحدثت في أكثر من مقال عن حاضر الدول العربية التي انحدرت من التمتع بمستوى معين من الراحة والرخاء إلى كونها مناطق حروب تزهق فيها أرواح مئات آلاف الناس، وأقول هنا بوضوح اكثر: إن هذا لا يعني أننا على وشك العودة إلى العصور المظلمة من جديد، وإنما يعني أنه علينا التعلم من ابن خلدون أن دوام التقدم والازدهار هو الاستثناء وليس القاعدة، وأن الحضارات التي تتهاوى هي الحضارات المنحلة أخلاقيا وسياسا وينخر فيها الفساد والطائفية والتعصب.
يقول ابن خلدون. عندما تضعف العصبية يتحلل المجتمع، وربما لا يؤدي مصطلح “العصبية” هنا الغرض المنشود منه، فهو لم يكتب لهذا العصر، لذلك دعونا نستبدله بمصطلح “الإنسانية”.
لقد حذر ابن خلدون من أن “الناس يجهلون إلى حد كبير مصالح الجنس البشري”. إن فشلنا في الاعتراف بإنسانيتنا المشتركة يولد الطائفية والقبلية والحروب، فيما نحن ننكفأ على ذواتنا ونتجاهل مدى تأثير ديناميكية العالم الأوسع على حياتنا.
التقدم ممكن، ولكن فقط إذا كنا قادرين على سد الفجوات الثقافية والاعتراف بإنسانيتنا المشتركة، من أجل مستقبل أكثر إشراقا لنا ولأطفالنا.