عالم من المناطق غير المحكومة

ee0997a5-5880-464c-b9bd-04d63552f73dكنا نعيش في عصر الدولة القومية ذات الحدود القوية الواضحة، حيث كانت الدول الفاشلة مثل الصومال استثناءً وليس قاعدة، وعندما غزا العراق الكويت اتحد العالم “المتحضر” لاستعادة سيادة الكويت، وعندما تفككت يوغوسلافيا شغلت الدول التي ورثتها مقعدها في الأمم المتحدة بسلاسة.

لكن يبدو أن عالم اليوم بدأ يفقد هذه الثوابت بسرعة، فمن الصعب أن نتصور الآن أن دولا مثل سوريا والعراق واليمن ستعود إلى سابق عهدها على المدى المنظور، هذا إن عادت أصلا.

في شمال أفريقيا مساحات شاسعة خارج سيطرة الحكومات المركزية، من شمال مالي ونيجيريا إلى ليبيا ودارفور والصومال، حتى أن سلطة الدولة تكاد تكون هامشية في بعض مناطق سيناء مثلا، وذات الشيء يمكن أن يقال عن كثير من أقاليم أفغانستان والمناطق القبلية في باكستان.

في الماضي لم تكن العواصم تهتم كثيرا لألاف الأميال من الحدود الصحراوية بين الجزائر والنيجر وتشاد والسودان مثلا، وهي حدود غير محددة وغير واضحة، لكن هذا المساحات الحدودية الشاسعة تحولت الآن إلى ملعب للجماعات المتطرفة مثل داعش وبوكو حرام وغيرها من الحركات التي تسعى للربط بين الجماعات السكانية المهمشة على أطراف تلك الحدود مع المهربين ورجال العصابات والقبائل الساخطة، ثم تقيم هناك تحالفات فضفاضة وغامضة تتجاهل حدود الدولة وتوفر منطلقا لزعزعة الاستقرار في الدول الهشة التي تحيط بها.

لن أتفاجأ غدا إذا لم ير أطفالي دولة يمنية موحدة وفاعلة، خاصة وأن هناك العديد من المجموعات القوية التي اكتسبت موطئ قدم ثابتة وعززت أوضاعها على المستوى المحلي، إضافة إلى وضع يدها على الموارد التي كانت تعتاش عليها الدولة المركزية، وبالتالي سلبت منها أحد أهم ركائز بقائها موحدة.

في هذه الأثناء يمكن القول إن الدول الفاشلة تصدِّر عدم الاستقرار إلى جيرانها، وتظهر قضايا اللاجئين، والأسلحة والمخدرات وتهريب البشر والارهابيين وانتشار النزاعات خارج الحدود، ونحن نرى الآن مثلا كيف انتقل الصراع السوري إلى لبنان، وأدى إلى تفاقم الأزمة السياسية، وبات يهدد الاستقرار الهش أصلا، في وقت يستضيف فيه لبنان ما يزيد على مليون لاجئ سوري.

من الصعب أن نتصور العراق كبلد موحد حتى لو تمت هزيمة داعش، فهناك حكومة غارقة في الفساد المنظم وواقعة في قبضة إيران، فيما ترزح الكثير من المناطق تحت إدارة ميليشيات قوية، وهو ما دفع السنة الساخطين للغاية والأكراد والقوميات الأخرى إلى تعزيز السيطرة على مناطقهم.

في هذه المنطقة من العالم لدينا دول تسعى لبسط سيطرتها مثل إيران وتركيا، بينما تقتطع روسيا لنفسها أجزاء من أوكرانيا وجورجيا وتسعى إلى تعزيز حضورها نفوذها في مناطق العربية، ولأن هذه التعديات تقوض مفهوم سيادة الدولة وتخلق إمكانية حروب بالوكالة وصراع إقليمي، فإنه من المفترض على الدول الرشيدة ذات المصلحة العمل على استعادة الأمن والاستقرار حتى خارج حدودها، كما رأينا مع دول مجلس التعاون الخليجي في اليمن وسوريا، أو حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية.

الأوضاع الكارثية لمناطق شاسعة من العالم اليوم تلقي بظلالها الثقيلة حتى على الدول القوية الراسخة، ويصبح لزاما عليها معالجة آثار تلك الأوضاع على المدى المتوسط والطويل، فالمسألة لن تقف عند تدفق مئات آلاف أو ملايين اللاجئين، وإنما ستتحول إلى نمط ثابت من السكان المشردين المهاجرين عبر أفريقيا وتركيا إلى أوروبا، يخاطرون بحياتهم للقيام بذلك، فيما أصبحت الهجمات الإرهابية الأسبوعية التي شهدناها في فرنسا وبلجيكا وألمانيا وأماكن أخرى ظاهرة جديدة لم تكن مألوفة.

هذه الأوضاع أسفرت أيضا عن فتح الحدود في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وهو ما أدى إلى تأجيج موجة من الأحزاب اليمينية العنصرية التي عملت على استقطاب المذعورين المناهضين للمهاجرين، وجميعنا صدمنا بمشاهدة بريطانيا تغادر الاتحاد الأوروبي.

صراع واحد أو دولة فاشلة واحدة مثل الصومال له تأثير ضئيل على النظام العالمي، ولكن عندما يكون لدينا سلسلة من الدول الفاشلة، تشكل شبكة من المناطق غير المحكومة، وانتشار كيانات معادية للدولة مثل داعش، يبدأ العالم بالنظر للمسألة بشكل مختلف، حيث يصبح نظام الدولة في أجزاء واسعة من العالم هو الاستثناء وليس القاعدة.

حتى أن دول مثل تركيا التي كان ينظر إليها حتى وقت قريب على أنها نموذج للأمة المسلمة المستقرة والمتقدمة تبدو الآن هشة، فلا زال بالإمكان تلمس ردود فعل المذعورين من محاولة الانقلاب الأخيرة، مع استمرار موجة التفجيرات الإرهابية، والعودة إلى ما يشبه حالة الحرب بين الدولة والأكراد داخل تركيا وخارجها، وهذه الهشاشة مرشحة للانتقال كالطاعون من دولة إلى أخرى.

ماذا نفعل حيال ذلك؟. إما أن نقبل هذا العالم الجديد المرعب مع نظام الدولة غير المكتمل واستعار التهديدات من قبل مناطق غير محكومة واسعة النطاق، أو نسعى باتجاه نظام عالمي تسوده الدول ذات السيادة القوية القادرة على بسيط سيطرتها على مختلف الأراضي داخل حدودها.

لقد أسفر التدخل الأمريكي في مناطق واسعة من العالم إبان حكم بوش الابن عن إفشال دول مركزية مثل افغانستان والعراق وزرع الفوضى، ثم قاد أوباما عملية عكسية انكفأت فيها الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها وسحبت يدها من كثير من الملفات الدولية مثل سوريا واليمن، وفي كلتا الحالتين أسهمت واشنطن في ظهور مشاكل كبيرة للعالم أكثر من تلك التي قالت إنها ستحلها.

في بداية رئاسة أوباما في العام 2007 كان التنبؤ بأن الشرق الأوسط سيشهد كل هذا الكم من المآسي والفوضى هو ضرب من الجنون أو المزاح، وبالتالي علينا اليوم أن نبادر بسرعة للعمل معنا كعقلاء وأصحاب مصلحة مشتركة من أجل تجنيب العالم مزيد من الفوضى في السنوات الأربع أو الثمان القادمة.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s