تعودت خلال سنوات عملي المهنية الطويلة على متابعة التطورات السياسية من حولي، وفي هذا الإطار إراقب منذ فترة وبانتباه كبير الارتفاع السريع للحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية في دول الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وأماكن أخرى حول العالم طالما ترسخت فيها الليبرالية، وأقول هنا إنه من السهل استخلاص الدوافع وراء موقف ما من قضية واحدة مثل الهجرة الجماعية والإرهاب، ولكن السؤال هو ما الذي يجعل ردة فعل كثير من الناس مليئة بالذعر والغضب – وليس الرحمة – عندما يرون سوريين يائسين في قوارب عبر البحر الأبيض المتوسط؟
في هذا الإطار أنا أراقب منذ فترة وبانتباه كبير الارتفاع السريع للحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية في دول الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وأماكن أخرى حول العالم طالما ترسخت فيها الليبرالية، وأقول هنا إنه من السهل استخلاص الدوافع وراء موقف ما من قضية واحدة مثل الهجرة الجماعية والإرهاب، ولكن السؤال هو ما الذي يجعل ردة فعل كثير من الناس مليئة بالذعر والغضب – وليس الرحمة – عندما يرون سوريين يائسين في قوارب عبر البحر الأبيض المتوسط؟
في هذه المقالة سأركز على عامل واحد أعتقد أنه كان مساهما رئيسيا في بروز ردود فعل كهذه: وسائل الإعلام اليمينية الشعبوية.
وأسأل هنا: لماذا وسائل مثل فوكس نيوز في أمريكا أو بعض الصحف في بريطانيا وأوروبا ناجحة جدا؟ الجواب هو لأنها استفادت من قاسم مشترك لدى الجمهور هو الخوف والتظلم، وعملت على استغلاله وتضخيمه وإعادة تقديمه لهم بصور شتى.
قنوات تلفزيونية كهذه تبث على مدار الساعة مشاهد لمواطنين عاديين غاضبين مما يعتبرونه غزوا من قبل الأجانب لبلادهم، ويتهمون الأجانب بتسببهم في انهيار الروح الوطنية العامة، واستنزاف موارد الدولة وأموال الرعاية الاجتماعية.
من القواعد الأساسية لعلم النفس أن الناس ينجذبون إلى المعلومات التي تدعم معتقداتهم الحالية ويتجنبون المعلومات التي تتحدى الطريقة التي يفكرون بها، ووسائل الإعلام تعرف هذه القاعدة جيدا وهي تقول لمتابعيها فقط ما يريدون سماعه.
إن متابعة القصص الأكثر شعبية وقراءة على الانترنت تظهر لنا كيف أن وسائل الإعلام تعمل على إشباع رغبات جمهورها عبر استثارتهم ومداعبة خيالاتهم من خلال نشر أخبار وحوادث وقصص فيها الكثير من الإثارة بل والتحريض، وهنا يغيب الإعلام الحقيقي بذريعة مقولة “الجمهور عايز كده” في أحط صورها.
والنتيجة هي ظهور قصص تافهة في أعلى قائمة أكثر الأخبار متابعة، قصص من قبيل “لاجئ سوري عذب وأكل كلبي” وأخرى مرتبطة بالعري وغير اللائق. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن واحدة من المفارقات اللافتة من هذه المنصات الإعلامية الشعبوية هي محاولتها الظهور بمظهر المحافظ المهووس بالدفاع عن المعايير الأخلاقية، لكن تلك المنصات لا تستطيع في الوقت ذاته أن تخفي رغبتها بنشر حتى الإيحاءات الجنسية بغية الحصول على المزيد من الاهتمام.
معظم وسائل الإعلام هذه يتم تشغيلها من قبل عدد من الشخصيات الثرية بشكل فاحش وذلك المؤسسات اليمينية، ومع ذلك، فإنهم غالبا ما يصورون أنفسهم على أنهم مناهضين لمشغليهم، ويعملون على تعبئة الجمهور ضد الطبقات السياسية التي تسمح بالهجرة وفرض الضرائب على الفقراء وتفشل في اتخاذ موقف صارم ضد المسلمين والإجرام وأي شيء آخر. وهكذا، يعمل الأغنياء الذين يجنون أرباحا هائلة من الأعمال غير المشروعة -أخلاقيا على الأقل- على إقناع جمهورهم أن تغير المناخ هو مؤامرة من قبل السياسيين الليبراليين وحلفائهم.
رأينا في حالة دونالد ترامب مثلا أن تضافر جهود وسائل الإعلام من أجل تشكيل وتشويه الرأي العام يمكن في بعض الأحيان أن يخلق وحشا يخرج لاحقا عن سيطرة تلك الوسائل، بل ويصبح أكثر تطرفا وأكثر عنصرية من وسائل الإعلام التي صنعته.
إبان الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، تلقت وسائل إعلام عديدة عقود إعلانية ضخمة من أجل بث دعاية مناهضة لأوروبا وتقويض المؤسسة الأوروبية، وشنت تلك الوسائل حملات محمومة من أجل تحشيد الرأي العام تجاه التصويت على الانفصال، وصوَّروا التصويت بـ “لا لأوروبا” على أنه تأكيد للهوية البريطانية ودفاعا عن تعدي الأجانب، دون الاكتراث بضرر هذا القرار على الاقتصاد البريطاني وتقلص نفوذ المملكة المتحدة على الساحة الدولية.
إن ارتفاع شعبية الأحزاب اليمينية في جميع أنحاء أوروبا يستعر مع حملة واسعة من التضليل، وربما كان أخطر ما في ذلك هو عدم القدرة على معرفة كم سيستغرق هذا الارتفاع من وقت وإلى أي سيقودنا بالضبط.
أنا لا أقصد أن ندعي أن صعود الشعبوية الغوغائية بسبب وسائل الإعلام اليمينية هو مرض غربي بحت، فقد شهد العالم العربي جملة من القنوات التلفزيونية الخاصة التي تبث أسوأ أشكال الكراهية الطائفية والتعصب والهمجية الثقافية، وبعضها يتم تمويله ورعايته من قبل جهات أجنبية.
إننا نخاطر في بناء عالم تبني فيه كل دولة –وحتى كل مدينة أو جماعة- سورا عاليا حول نفسها لمنع دخول جيرانها، واعتبار أن الجميع خارج هذه الأسوار أشرار يجب مراقبتهم، بل واستعدائهم، وحقيقة ليس هذا هو العالم الذي أعرفه وأحبه، وليس هذا هو العالم الذي أريد أن أرى أولادي وأحفادي يكبرون فيه.
أنا أدعو فعلا لحملة عالمية ضد الجهل بغية الوقوف في وجه هذه السيول من الكراهية وانعدام الأخلاق، فنحن نعيش في عالم بدأت تظهر فيه العديد من أشكال وأنواع الكراهية المختلفة، ويمكن أن نرد الكراهية بالكراهية، ولكن هذا يزيد من استعار المشكلة، لذلك فإن الرد الصحيح والوحيد على الكراهية هو الحب، وإبداء التضامن مع الإنسانية، خاصة عندما يبدو هذا أمرا من الصعب القيام به.