منذ فترة قام رئيس وزراء حكومة الإمارات العربية المتحدة حاكم إمارة دبي سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بجولة ميدانية صباحية مفاجئة لعدد من الدوائر الحكومية في الإمارة، وبدت على وجه سموه معالم الدهشة والغضب عندما فوجئ بخلو أول مكتب حكومي يزوره من أي موظف، لكن المكاتب الأخرى التي زارها في ذلك الصباح كانت أيضا خالية من موظفيها!.
نشرت الصحف الإماراتية المحلية صورا للشيخ محمد يقف وحيدا وسط العديد من المكاتب الفارغة، فيما أظهر مقطع فيديو مسجل عن الزيارة ذاتها الشيخ محمد ينظر إلى صورته الرسمية المعلقة على جدار أحد المكاتب فوق كرسي المسؤول، وكأن الرسالة التي يريد سموه إرسالها للمسؤولين هي: هل تكتفون بتعليق صوري على جدران مكاتبكم فيما انتم غارقون في التسيب وترتكبون أعمالا لا أرضى بها؟
لقد تابعا أخبار تلك الزيارة المفاجئة على الدوائر الحكومية في دبي باهتمام ودهشة وربما تندر، خاصة وأنها زيارة غير مألوفة لمعاينة وضع مألوف في كثير من الدوائر الحكومية في القطاع العام في دول الخليج العربي.
تعوَّدنا جميعا على الصورة النمطية لموظف القطاع العام، فالمكاتب الخلفية مكان لتمضية الوقت الذي يمر ثقيلا على الموظف لعدم وجود ما يشغله أو عدم رغبته في العمل أساسا، وفي المكاتب الأمامية يجلس موظف لا يحترم غالبا أوقات المتعاملين، ويرمقهم بنظرات باردة وكأنه صاحب فضل عليهم، ويتثاوب أمامهم أو ينهض متكاسلا من كرسيه وكأنه استيقظ توا من النوم. فيما اللعب بالهاتف، واصطياد أية فرصة للتغيب عن العمل أو القدوم متأخرا والخروج باكرا هي سمة أساسية بين الجميع، رغم أن الجميع لديه حلم الترقي الوظيفي بحيث يمكنه تجيير ما يقوم به من أعمال بسيطة إلى الموظفين تحت إدارته.
أسفرت زيارة الشيخ محمد بن راشد إلى إحالة العديد من كبار المسؤولين على التقاعد وإخضاع بعضهم لإجراءات تأديبية، ونحن نستطيع أن نجزم بأن هذه الزيارة بثَّت موجة صدمة في مختلف دوائر الدولة في إمارة دبي على الأقل، وربما يحرص المسؤولين حاليا على القدوم إلى مكاتبهم حتى قبل بدء الدوام الرسمي لشهر قادم على الأقل، لكن هل هذا يعني أنهم سيبدؤون عملهم بفاعلية؟ ربما!
هذا هو الشكل النموذجي للمشكلة التي نواجهها في جميع أنحاء المنطقة فيما يتعلق بثقافة العمل في القطاع العام، فهل من الضروري أن يكون هذا القطاع على هذه الشاكلة حقا؟. لقد زرت العديد من الدول ذات القطاع العام الممتاز، حيث الموظفين مدربين ومنتجين ومدركين لمتطلبات عملهم على أكمل وجه، وهنا في البحرين أرى أن القائمين على رأس هرم السلطة التنفيذية من وزراء وكبار المسؤولين جاهزين دائما لدعم المبادرات التجارية والسياحية لما فيه خير البحرين، لكن هذا مع الاسف لا يمنع من تفشي ظاهرة التراخي وعدم الرغبة في اتخاذ المبادرة في طبقات الإدارات الحكومية المتوسطة والدنيا.
من تجربتي كشخص يدير مكاتب تضم آلاف الموظفين على امتداد الوطن العربي أرى أن هناك عدد من الخطوات الواضحة لتعزيز ثقافة العمل، أولها ما يمكن تسمته القيادة بالنتائج، بحيث ترسم الإدارة العليا الأهداف وتضع النتائج المطلوب الوصول إليها، وتوظف فقط الأشخاص المؤهلين والقادرين على تحقيق تلك النتائج، وتعمل لتكون الأهداف النهائية وطرق تحقيقها واضحة في أذهان الجميع.
أيضا يجب أن يكون الوصف الوظيفي للموظف محددا وواضحا ومتوائما مع النتائج المطلوب تحقيقها، وعلى الإدارة عقد اجتماعات دورية مع الموظفين للتأكد من أن كل شيء يسير وفق الخطة المرسومة، والفاشلون يجب أن يحصلوا أولا على فرصة لتعزيز أدائهم، ولكن يجب تمكين الإدارة من نقل أو فصل أصحاب الأداء المتدني من أي أسرة كانوا.
كما يجب التركيز على النوع قبل الكم، فموظفين اثنين مدربين ومتناغمين ومتحمسين للعمل يمكن في كثير من الأحيان أن ينجزا المهمة بشكل أفضل من طاقم عمل كامل، وهنا يجب وضع حد لفكرة أن القطاع العام هو مكان توظيف الناس الذين لا يستطيعون العثور على وظائف في أماكن أخرى، فخدمة الجمهور يجب أن ينظر إليها على أنها امتياز يحظى القائمون عليها في المقابل بكثير من المميزات.
ولا يجب أبدا إغفال أهمية رأس المال البشري، بل يجب أن ينظر إليه على أنه أهم الأصول التي تستحق الاهتمام والاستثمار في التدريب والتطوير، وتقديم المكافآت على أساس التميز والإنجاز، والإدارة يجب أن تتأكد دائما من أن الوظيفة مثيرة للاهتمام ومرضية وفيها تحدي.
ويجب أيضا اعتماد مبدأي الشفافية والنزاهة، ليكون العقاب والثواب والمكافآت والتأديب بإنصاف، بحيث لا يمكن أن يجري اتهام المديرين بمحاباة موظف أو مقت آخر، ويجب أن يكون هناك نظام مفتوح يتضمن المساءلة للتعامل مع مزاعم السلوك غير المهني وسوء الإدارة أو الفساد.
كثير من المقترحات السابقة يدور حول أمرين اساسيين: مكافأة أصحاب الأداء المتميز ومسائلة المقصرين، ولكن كثير من الناس يمكن أن يرو أن تلك المقترحات ليست استثنائية، فمعظمنا يمكن أن يرى أوجه القصور في أجزاء من القطاع العام ولديه فهم واضح لماذا يحدث هذا، لكننا متفقين على الأقل على هدف واحد: نريد أن نرى الإدارات تخدم الجمهور بفاعلية، وأن إنفاق المال العام يجري بعناية وبشكل فعال.
هل لنا أن نأمل أنه عندما سيقوم المسؤولين البحرينيين بجولة غير معلنة على الدوائر الحكومية سيرون الموظفين جميعهم خلف مكاتبهم منهمكين في خدمة الجمهور ووطنهم؟ نرجو ذلك حقا.