نسمع أن دول مجلس التعاون الخليجي بدأت تتنفس الصعداء عقب عودة أسعار النفط في الأشهر الأخيرة للارتفاع وإن كان ببطء، حتى أن بعضهم ذهب للاعتقاد أن الأزمة قد انتهت.
ولكن نحن نعلم أن هذه ليست القصة الكاملة، ومن غير المتوقع عودة أسعار النفط إلى مستويات الأسعار التي كانت سائدة في وقت مبكر من العام 2014، فيما لا زالت حالة عدم الاستقرار والانكماش تعتري اقتصادنا على مدى العامين الماضيين.
الحكومة البحرينية استطاعت إلى حد ما تخفيف تداعيات هذه الأزمة الاقتصادية عن طريق اتخاذ اجراءات لإصلاح الدعم وخفض الهدر والمصروفات المتكررة في الموازنة العامة، ولكن أيضا عن طريق الاقتراض ورفع سقف الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة.
عادة أمضي الجزء الأكبر من إجازتي الصيفية في لندن، وهذا أتاح لي أن اشاهد عن قرب كيف أن الاقتصاد البريطاني نجح في تجاوز التحديات الاقتصادية التي حدثت منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2007-2008.
عندما تواجه الحكومات الركود الاقتصادي تجد نفسها أمام خيارين: إما خفض جذري في الإنفاق من أجل تحقيق التوازن في الميزانية وضبط مستويات الدين العام، وهو ما يعرف بسياسة التقشف، أو زيادة الإنفاق لتحفيز الاقتصاد وانعاش القطاعات المولدة للثروة وفرص العمل، وفي العام 2008 رأينا كيف أن دولا مختلفة سيما في الغرب اعتمدت واحدة أو أخرى من هذه الطرق، وحققت نتائج متباينة.
كان لدى بريطانيا توجه بارز في سلك طريق التقشف وإحداث خفض حقيقي في إنفاق القطاع العام على وجه الخصوص، وذلك بهدف الحد من ارتفاع مستويات الديون المتراكمة من قبل حكومات سابقة، ولكن هل يمكن القول بعد ثماني سنوات إن هذه السياسة قد نجحت؟
من ناحية نجد أن الدين العام البريطاني أصبح تحت السيطرة، بل وتأمل البلاد للمرة الأولى منذ عقود أن يكون لديها فائضا في الميزانية خلال السنوات المقبلة، لكن من ناحية أخرى كان للتقشف تأثير صعب على الاقتصاد البريطاني، حيث كانت هناك قطاعات مختلفة لم تحظ بالنمو المطلوب، فيما بات قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يهدد بإعادة البلاد إلى حالة الركود مجددا.
وثمة مشكلة أخرى مع التقشف هي حرمان القطاع الخاص من الأموال الحكومية ما يؤدي إلى تقلص حجمه ونشاطه، وهذا يعني بدوره انخفاض عائدات الضرائب والرسوم، وهو أمر يقود بدوره إلى حرمان الحكومة من جزء مهم من روافد ميزانيتها.
ما الذي نتعلمه من تلك الدروس هنا في البحرين؟ من ناحية علينا أن نضع على رأس أولوياتنا خفض مستويات الدين العام وكبح جماحه خاصة وأنه وصل حاليا لنحو 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي، خاصة بعد أن فاقمت زيادة معدلات الاقتراض من التحديات، حيث أسفرت عن تراجع في تصنيف البحرين الائتماني الدولي ما جعل الاقتراض أكثر تكلفة، وجزء كبير من الميزانيات المقبلة سوف يستهلك في خدمة هذا الدين، وهذا يؤثر سلبا على قدرة البحرين على تحمل الأزمات.
وهذا يعني أيضا أنه على الرغم من تحسن أسعار النفط قليلا، إلا أن الآثار السلبية لانخفاضها لا زالت مسيطرة، وهو ما يفرض على الحكومة أن تضع ضمن أولوياتها تخفيض النفقات وزيادة الدخل، وذلك للحد من عبء الديون.
وسيتطلب ذلك المزيد من القرارات الصعبة على غرار ما رأيناه مع إصلاح الدعم، وهنا لا يمكن للنواب مقاومة ذلك بالقول: يجب ألا يتأثر المواطن، ففي واقع الحال علينا جميعا أن نتحمل كمية صغيرة إضافية من المشقة وذلك لدرء خطر أكبر بكثير في المستقبل على الأرجح.
ولكن يجب أن تتجنب البحرين الآثار السلبية التي تترتب على سياسة التقشف الصارمة كما شهدنا في المملكة المتحدة، فخفض النفقات يجب أن يشمل القطاعات غير المنتجة، مع الاستمرار في الاستثمار في قطاعات الاقتصاد التي ستستند ازدهار البحرين في المستقبل، وهي: السياحة والضيافة، والأعمال المصرفية، والخدمات والتجارة الإقليمية.
على مستوى الحكومة، الوزارات والإدارات يجب أن تكون أقل حجما وأكثر كفاءة، وأن تتمكن بشفافية من إظهار النتائج وخدمة الجمهور، وينبغي النظر إلى القطاع الخاص، وليس القطاع العام، كمحرك للمستقبل وقادر على خلق فرص عمل للبحرينيين الموهبين والطموحين.
إن الركون إلى آمال تحسن أسعار النفط والعودة إلى آليات العمل المعتادة في الإدارات الحكومية والقطاعات المختلفة دون الاستفادة من هذا الدرس سيحمل معه آثارا كارثية ليس على الاقتصاد فقط وإنما على البلد ككل.
بدلا من ذلك، نحن كأمة يجب أن نعي الدرس ونأخذ الخيارات التي كانت قيد المناقشة عندما كانت الأزمة في أسوأ حالاتها، وذلك بهدف تعزيز الوضع المالي في البحرين ووضع الاقتراض تحت السيطرة، وتحفيز القطاع الخاص.
وهذا يتطلب من الحكومة مبادرات شجاعة وعدد من الاجراءات والقرارات التي قد لا تروق للشعب على المدى القصير، ولكنها تحمل في طياتها الازدهار المستقبلي لنا ولأولادنا، ولتحقيق هذا الهدف من المهم أيضا بالنسبة للحكومة وضع رؤيتها الاقتصادية بشكل واضح أمام الجمهور، وتبرير القرارات الصعبة وبيان مزاياها.
لا يمكن ولا ينبغي للبحرين أن تقيس قيمتها وتربط نفسها ببرميل من النفط، وتجربة العامين الماضيين أظهرت العواقب الخطيرة لهذا، ولقد اتخذت البحرين بالفعل خطوات مهمة وبعيدة النظر نحو رؤية اقتصادية جديدة، والآن نحن بحاجة إلى عزيمة وحكمة لترسيخ هذه الرؤية.