منذ عام أو أكثر قليلا أواظب على كتابة مقال صحفي أسبوعي في جريدة الأيام، ومهمة كتابة هذا المقال ذي الـ 700 لكمة بمهنية تكاد تكون من بين أصعب المهام التي يتوجب علي القيام بها أسبوعيا، وهذا ما يدعوني دائما إلى إدراك كمية وأهمية الجهد الذي يبذله الصحفيين، ويزيد من إعجابي بهم.
في كثير من الحالات يدور المقال حول أحداث الساعة كما هي العادة، لكن عندما تداهمنا عشرات الأخبار المهمة يوميا حول النزاعات والاستقطابات والسياسة والاقتصاد والأعمال، أجد أن المفاضلة بينها واختيار الأنسب ليكون عنوان مقالي التالي عملية صعبة ومحيرة أحيانا ويستحيل مناقشة كل تفاصيلها، وهذا ما يصيبني بالإحباط، والأنكى من ذلك هو أنني أكون مضطرا لكتابة مقالي عن حدث ساخن يوم الاثنين لأسلمه للجريدة يوم الثلاثاء وينشر يوم السبت، وخلال هذا الأيام المعدودة تقع أيضا العشرات من الأحداث المهمة، فيبدوا مقالي وكأنه متأخر عن إدراكها وتحليلها والتعليق عليها، وهذا ما يزيد من إحباطي.
في بعض الأحيان أرى أن الكتابة هي ضرب من ضروب الحظ مهما اعتمدنا على أساليب التحليل المنطقي للأحداث وربط النتائج بالمقدمات، وكثيرا ما تدخل في معادلة الأحداث عناصر غير متوقعة نهائيا تغير النتيجة بشكل لا يبدو منطقا. إنها تظهر كما لو أنها نشأت في الفراغ، ثم تداهمنا على حين غرة وتعيد ترتيب الأولويات والاهتمامات بناء على تطورات الأحداث بشكل “هوليودي”.
في أواخر العام 1974 كنت في بيروت قد أصبحت رجل أعمال شاب منتشي بالإنجازات وكأن العالم أصبح تحت أقدامي، وشرعت بالعديد من المشاريع الناجحة بشكل هائل وتملكني شعور بأن قراراتي لا يمكن إلا أن تكون صائبة مئة بالمئة، في ذلك الوقت جرت معي واحدة من أغرب المحادثات في حياتي مع رجلين أحدهما لبناني والآخر أمريكي أدركت في وقت لاحق أنه ربما يعمل لصالح المخابرات الأمريكية.
بعد تجاذب أطراف الحديث معهما لوقت طويل حول مواضيع عديدة، تحول الرجل الأمريكي نحوي بجدية وقال: أعتقد أن عليك الخروج من لبنان مع عائلتك في أسرع وقت ممكن. شعرت في بادئ الأمر أن الرجل مختل، فقد كانت بيروت في تلك اللحظة في أوجها لناحية الثقافة والأعمال والتنمية. لقد بدت بيروت لي في ذلك الوقت أفضل مكان على كوكب الأرض على الإطلاق.
بعد فوات الأوان بالطبع ثبت لي خطأ ما كنت أعتقده، فلم يمض أشهر على تلك المحادثة حتى وجدت نفسي مع أفراد عائلتي من ضمن الفارين من بيروت والتاركين لكل شيء خلفهم، فيما كانت بيروت تحترق من حولنا نتيجة حرب أهلية دخل لبنان في أتونها لـ 15 عاما.
لقد كانت أمام الجميع العديد من مؤشرات الصدام: المسيحيون والدروز والميليشيات الفلسطينية تراكم الاسلحة، واشتباكات متفرقة هنا وهناك، ونمو حاد في التوترات الطائفية، ولكن لم يكن الكثيرون يتصورون أن كل شيء من حولنا سيتم تدميره بسرعة وبشكل كامل.
أود أن أدرك أنني أصبحت أكثر حكمة وأكثر خبرة من ذلك الشاب في بيروت الذي اعتدت أن أكون. ومع ذلك، أعتقد أن واحدة من الأشياء التي تجعل منا بشرا هو عدم قدرتنا على رؤية الوضع من جميع الجوانب وبشكل كامل، وقصورنا عن الإدراك العميق لجميع احتمالات تطوره.
لدينا واجب تعزيز معرفتنا وخبرتنا بما يساعدنا على فهم العالم بطريقة أفضل من أجل خير المجتمع، لكننا أيضا بحاجة إلى التواضع لنعترف بأننا يمكن أن نكون مخطئين أحيانا. لقد وصف الفيلسوف سقراط نفسه ذات مرة بأنه أحكم رجل على قيد الحياة لأنه كان يعرف أنه لا يعرف شيئا!.
وعلى الرغم من هذه القيود في المعرفة، يبقى لدينا التزام لتعليم وإرشاد أولئك الذين يعرفون أقل منا بكثير، فمسؤولية الأجيال الأكبر سنا هي رفد الأجيال الناشئة بالحكمة والخبرة.
أكاد أقول إن وقود كل الصراعات والتوترات الأهلية التي نراها حولنا اليوم هم أصحاب العقول المغلقة من الذين يرفضون الاعتراف بافتقارهم للفهم، فالتعريف الدقيق للتطرف هو الاعتقاد بأنك على حق وجميع المختلفين عنك بالتفكير مخطئون، وبالتالي تجب معاقبتهم.
أود أن أرى المدارس تدرس الفلسفة كمادة إلزامية لأن ذلك يتيح بناء جيل أفضل مطلع على النظم العقائدية الأخرى ولديه طرق مختلفة لرؤية العالم، لكن الكثير من الناس سيخالفونني في ذلك بدعوة أن هذه الطريق ستقود للترويج للأفكار الخطيرة في الشيوعية والإلحاد والعلمانية والنسبية والعدمية.
لكني اختلف معهم في ذلك، فعن طريق الاطلاع على وجهات نظر عالمية مختلفة كهذه يمكننا رؤية اخطائها، وكيف أن الفاشية والستالينية تؤدي إلى قتل الملايين من الناس في معسكرات الاعتقال، وكيف تلحق الإمبريالية الغربية والاستعمار ضررا بالدول النامية، وكيف يمكن لإيديولوجية داعش المتطرفة أن تؤدي حتما إلى وحشية القتل الجماعي، والاسترقاق والتعذيب والإبادة الجماعية.
الفلسفة تعلمنا أيضا أن هناك العديد من الطرق لفهم الظاهرة نفسها، وأنه لا يمكن القول ببساطة أن نهج واحد هو حق والآخر على خطأ. فنحن قد نختلف مع شخص ما ولكن دعونا على الأقل بذل جهدا لفهم وجهة نظره.
إنه لأمر مأساوي أننا كأمة عربية نفخر جدا بإنتاجنا عددا من أعظم الفلاسفة في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكني التقيت بعدد قليل من الناس الذين سبق وقرؤوا أي شيء لابن رشد أو الكندي أو ابن العربي أو ابن سينا أو يعرف شيئا عن أفكارهم ومعتقداتهم.
يحضرني هنا قول الخليل بن أحمد الفراهيدي “الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، فذلك العالم فاسألوه؛ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك الناسي فذكروه؛ ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك الجاهل فعلموه؛ ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك الأحمق فاجتنبوه”، ومما قالت العرب: “يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل”، ولقد علمنا سقراط أن الخطوة الأولى للمعرفة هي إدراك أننا لا نعرف الكثير.
*رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسيفن القابضة