تغليب المصلحة القومية

1-831249تحدثت مع كثير من الناس الذين أعربوا عن تفاؤلهم الكبير جدا إثر الإعلان عن مشروع جسر الملك سلمان الذي سيربط بين المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، والفوائد المنشودة لهذا المشروع والتي تتعدى كونه أحد مشاريع البنية الأساسية الضخمة.

وأنا أتفهم حماس عدد من الناشطين المصريين وممثلو عدد من الأحزاب الذين طالبوا بإبقاء جزيرتي تيران وصنافير تحت السيادة المصرية، ووصل الأمر للقضاء الإداري المصري الذي أصدر قرارا ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، لكن أود هنا أن أوضح أن أية اتفاقية شراكة بين طرفين إلى جلب منافع أكبر لكل منهما فيما لو قام بالعمل لوحده، لكن بالمقابل على كل طرف إدراك أن المصلحة المشتركة العليا تتطلب تقديم تسهيلات، وأحيانا تنازلات وتضحيات. يحدث هذا في الأعمال والاقتصاد والأفكار والسياسية، على صعيد الأفراد والمؤسسات والشركات، والدول أيضا.

إن أهمية جسر الملك سلمان تتعدى الربط بين السعودية ومصر إلى كونه أول ربط برًي بين الضفتين الشرقية والغربية للوطن العربي بعد أن فصل قيام دولة إسرائيل في 1948 وتوسعها في 1967 بينهما.

لقد كانت دول مجلس التعاون الخليجي في حالة يأس وترقب خلال عامي 2011-2013 جراء ما كانت تعانه مصر من فوضى وصعود التيارات الإسلامية والقوى المتصادمة، كما كانت العلاقات بين الجانبين خلال السنتين التاليتين معقدة، خاصة مع عدم تطابق وجهات النظر تجاه الأحداث في سوريا وعدد من قضايا العمل العربي المشترك، فهل حمل مطلع العام 2016 معه بوادر اجتياز مصر ودول مجلس التعاون الخليجي للمرحلة السابقة الصعبة وإعادة التوازن والاستقرار للمنطقة انطلاقا من أكبر قوتين عربيتين؟

لقد أحبطت الانقسامات السياسية أو الجغرافية الأحلام القومية للوحدة العربية في منتصف القرن الماضي، فتعثرت “الجمهورية العربية المتحدة” في العام 1958 بين سوريا ومصر والتي سادها مزيج من التناقضات والتحديات، كما بقي مشروع الوحدة بين ليبيا ومصر وسوريا حبر على ورق، وساد صراع مرير بين سوريا والعراق التي يحكمها للمفارقة حزب واحد هو حزب البعث، كما تعثر مشروع وحدة الدول العربية في المغرب العربي: ليبيا والجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا، بل إن التناحر هو السائد في كثر من الملفات بين تلك الدول مع الأسف.

مضى الوقت، واستفاق العرب من أحلامهم على فصل إسرائيل لوطنهم إلى قسمين في هزيمة مذلة سماها العرب “نكسة” أعقبت الـ “نكبة” بـ 19 عاما، وما هو أسوا من أن وجود اسرائيل على هذا النحو يذكر العرب دائما بمأساوية انقسامهم، هو تغنيها بهيمنتها العسكرية عليهم جمعيا.

هل يمكن أن أذهب للقول إن مشروع الجسر السعودي المصري هو تغلب بشكل أو بآخر على “مجمع إسرائيل” الذي قسم الوطن العربي إلى قسمين، وبالتالي يشكل بناء الجسر حلَّا من أجل الالتفاف حول هذا المجمع؟!.

نحن، الأجيال العربية التي عايشت فترة 1967 وما بعدها ارتبطنا ارتباطا وثيقا بالقومية العربية كفكر ومشروع منذ أن كنا نقرأ عنها في كتب التاريخ المدرسية، لكننا شهدنا تطبيقات ذلك الحلم بشكل كارثي عزز من الانقسام، فكانت حركات التطرف الإسلامي، أو ما يكن تسميته “طقوس القومية” التي تتمحور حول شخصيات مثل القذافي وصدام وبن علي من الذين يستأثرون بالسلطة خلف مجموعة من الأيديولوجيات المستعارة التي تدغدغ أحلام الجماهير ليس إلا.

لقد شهدت زيارة العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز لمصر أيضا تغييرات ديناميكية في العلاقات الثنائية بعيدا عن التبرعات والهبات النفطية والنقدية، فكان هناك تحرك نحو مشاريع تحقق مصالح كلا الطرفين مثل صندوق استثمار بـ 16 مليار دولار، ومنطقة اقتصادية حرة في سيناء، ومشروع تنمية بـ 3.3 مليار دولار على طول قناة السويس ومحطة لتوليد الكهرباء بـ 2.2 مليار دولار.

يمكننا أن نتصور مدى الرعب الذي أوقعته تلك المشاريع الضخمة التي أعلن عنها خلال لقاء الملك سلمان مع الرئيس السيسي في قلوب أعداء الأمة العربية ليس في الخارج فقط، وإنما في الداخل أيضا، ويمكن أن نؤكد أن هؤلاء سيعملون دائما على إفشال هذه المشاريع أو عرقلتها على أقل تقدير.

في مطلع العام 2016 وصلنا إلى مرحلة شعرنا فيها أننا بعيدون كل البعد عن أي بارقة أمل تعيد جمع شمل الأمة العربية، وفي وقت كانت فيه ولا زالت دول مثل العراق وسوريا وليبيا تتفتت، يأتي مشروع جسر الملك سلمان كخطوة واسعة نحو توافق صنع السياسات العربية وتوحيد الأهداف.

إن الحديث عن أهمية الربط البري في تعزيز وحدة الدول الاقتصادية، والسياسية أيضا، يستدعي التأكيد على أهمية مشروع سكة حديد دول مجلس التعاون الخليجي والتي يقع معظمها شرق الخليج العربي، وإنشاء جسر الملك سلمان ودعمه بسكة حديد وربطها بسكة دول مجلس التعاون يعني أن كل تلك الدول –وليس السعودية فقط- ستصبح على تواصل اقتصادي حيوي مع مصر.

تخيل عصر سفر رخيص وسريع للركاب والبضائع بين القاهرة والرياض والمنامة وحتى مسقط. هذا يمكن أن يكون لها تأثير تنشيطية كبير على التجارة بين الدول العربية، وتشجيع حركة العمال والسياح وجعل العمل العربي المشترك أكثر وضوحا.

ينقل عن الزعيم الالماني التاريخي بسمارك، أنه سئل: كيف وحدت المانيا؟ فأجاب ”الذي وحدها هو سكة الحديد”.

في يونيو 1967 كانت شهدت شبه جزيرة سيناء وقناة السويس واحدة من أكبر نكسات الأمة العربية، وهذه الأرض ذاتها يمكن أن تشهد اليوم واحدا من أهم مشاريع نهضة ووحدة الوطن العربي.

الإعلان
بواسطة akmiknas

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s