كان الاعتقاد السائد بين كثير من القادة الصهاينة الأوائل أمثال حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون أن السبيل الوحيد لبقاء دولة إسرائيل على قيد الحياة وسط هذا العدد الكبير من الدول المجاورة المعادية هو تقسيم الفلسطينيين والدولة العربية إلى كيانات صغيرة وضعيفة، ولو كانوا أحياء لرأوا اليوم بأم أعينهم إلى أي مدى تحققت رؤيتهم تلك.
الله وحده يعلم كيف تقسمت بل تشظَّت كل من سوريا والعراق إلى كانتونات صغيرة، ولبنان قد لا يكون مقسما جغرافيا، لكنه منقسم سياسيا واجتماعيا كما لم يكن في أي وقت مضى، كما انقسم الفلسطينيون إلى ضفة (فتح) وغزة (حماس) المتناحرتان سياسيا على الأقل، وغابت قضيتهم عن الساحة في ظل الأزمات والحروب الطاحنة في كثير من الدول العربية.
بالنسبة للكثيرين منا، لم تعد إسرائيل وحدها العدو رقم واحد، خاصة بعد استفحال الخطر الإيراني وإسهامه في تفتيت العراق، وجر نظام بشار الأسد لسوريا من مركزها العروبي القومي إلى الحضن الفارسي، ودعم الحوثيين الانفصاليين في اليمن، ودعم الإرهاب في البحرين والسعودية، وزعزعة استقرار المنطقة بكاملها.
لماذا نحن في هذا الوضع، وكيف يفترض بنا أن نخرج منه؟ هل يفترض بنا الاعتماد على الأسلحة أم الدبلوماسية؟
أننا نفتقر إلى استراتيجية عربية موحدة لأننا نفتقر إلى الشعور بالهوية العربية المشتركة مع وقوع أنظمة وقوى سياسية مؤثرة في عدد ليس قليل من الدول العربية تحت تأثير قوى خارجية معادية.
كنت تحدثت في مقال سابق أن الشعب الإيراني ليس عدونا، بل هم أخوتنا في الدين، وفي الإنسانية، ويجب أن نشعر بالتعاطف معهم إزاء المصاعب التي يواجهونها في ظل القيادة القمعية التي تضع أيديولوجيتها العدوانية قبل رفاهية شعبها.
وبالمثل، أبناء عمومتنا اليهود ليسوا أعداء لنا، ويمكن أن نحترمهم كشعب ونحترم دينهم، في حين نعارض بشدة الغرائز العنصرية والعدوانية من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
لذلك يجب أن تكون استراتيجيتنا كعرب واحدة لتحقيق سلام طويل الأمد مع جيراننا، مع علمنا جنبا إلى جنب على إحباط المخططات التوسعية والعدوانية المتشددة التي تستهدف أمننا واستقرارنا ورفاهيتنا.
يحتاج العالم العربي إلى التوحد حول ما يجمعنا كعرب من روابط كلغة وثقافة ودين وتاريخ مشترك، وإلى رسم استراتيجية لتحقيق المصالح الجماعية للدول العربية، فعندما تكون دول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب بعضها البعض نجد أنها تشكل جبهة موحدة قوية لها وزنها على الساحة العالمية، وعندما تنضم إليها دول عربية أخرى مثل الأردن ومصر والمغرب تتعاظم قوتها وحضورها الاقتصادي والسياسي والعسكري والإنساني على المستوى الدولي.
على سبيل المثال، من المفيد أن نرى عالما العربي موحدا ويلعب دورا أكثر حسما في هزيمة داعش، بدلا من السماح للميليشيات الطائفية التي تمولها ايران والقوى الغربية بأداء هذه المهمة، وتقويض آفاق العمل العربي المشترك، ومع ذلك، قبل أن نصبح قوة مقاتلة حاسمة، نحتاج أولا إلى رؤية لاتباع نهج شامل مشترك لمواجهة تلك التحديات.
إن كسب الحروب لا يتم ببساطة عبر حشد عدد أبكر من الجنود، بل من خلال الفهم العميق لقوة الخصم وابتكار أساليب جديدة غير متوقعة لهزيمته. لقد غزا الأتراك جنوب شرق أوروبا بالبنادق، وبدأ هتلر الحرب العالمية الثانية مع استراتيجية جديدة من الحروب الخاطفة عبر اقتحام جميع أنحاء أوروبا بالدبابات خفيفة الحركة، وأنهت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية بالقنبلة الذرية، ومنذ قصة حصان طروادة الشهير يعلمنا التاريخ أن الابتكار والمكر والاستخبارات مهمة في كسب الحروب أكثر من القوة الغاشمة.
وكم أنا مطمأن ومسرور من مواقف القيادة السعودية الحازمة بشكل متزايد خلال العامين الماضيين، والتي نجحت في تعزيز وحدة مجلس التعاون الخليجي، وجذب الكثير من الحلفاء الدوليين، وهو ما يمكنها من مواجهة التحديات المشتركة.
في العراق وسوريا ولبنان واليمن نرى صراعا وجوديا لبقاء العروبة في مواجهة التدخل الأجنبي والصراعات الداخلية، هذه الصراعات لا يمكن ببساطة كسبها عسكريا، بل نحن بحاجة إلى تأكيد ما تعنيه الهوية العربية وإحيائها لدى الناس في تلك الدول، سواء أكانوا سنة أم شيعة، دروز أم علويين، مسيحين أم أكراد، وذلك ليكونوا جزءا من الإجماع العربي الذي لا يستند على أسس طائفية أو عرقية ضيقة.
إن وطناً عربياً متحداً قوياً يستطيع فرض رؤيته ومصالحة على جدول الأعمال العالمي، وعندما نتحدث لن تجرؤ القيادة الإيرانية أو الإسرائيلية على التدخل في شؤوننا، بل سيتجه تفكيرهما إلى استرضائنا لإقامة سلام معنا، ولقد قال المفكر العربي عبدالرحمن الكواكبي سابقا “لو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم”، وقيل ايضا “الاستعداد للحرب يمنع الحرب”.
الضعف يولد الضعف، والوحدة هي القوة المستدامة، ولقد رأينا المملكة العربية السعودية تأخذ زمام المبادرة في قيادة دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية معا في مواجهة هذه التحديات، والآن دعونا نأخذ هذا إلى المستوى التالي مع رؤية واستراتيجية واضحة هدفها النهائي ضم جميع الدول العربية في كيان واحد يحمل الخير والسلام لجيرانه وللبشرية قاطبة.