ما هو السبب في أن عدد من الشخصيات الاستثنائية والموهوبة إلى حد كبير تمكَّنت من النجاح وتحقيق الشهرة فقط بعدما هاجرت تاركةً دول الوطن العربي خلفها؟
في مقال سابق تحدثت عن ميشال تامر، وهو ابن مهاجرين لبنانيين وصل الآن إلى سدة حكم أكبر دول أمريكا الجنوبية، وإلى جانبه عدد كبير من الشخصيات يمكن أن أخص منها بالذكر رجل الأعمال المكسيكي المصنف في قائمة أغنى أغنياء العالم كارلوس سليم الحلو، وهو أيضا من أصل لبناني، وهناك أيضا المهندسة المعمارية العراقية ذائعة الصيت زها حديد التي وافتها المنية قبل بضعة أسابيع فقط. والرائد العالمي في مجال جراحة زراعة القلب مجدي حبيب يعقوب الذي نشأ ودرس في مصر.
والقائمة تطول جدا بأسماء الأشخاص الذين هاجروا من الوطن العربي وحققوا نجاحات كبيرة جدا خارجه، ولكن المسألة الأساسية هنا هي: لماذا ينجح العرب في الغرب ولا يتحقق لهم ذلك في وطنهم؟
هل يمكن أن يكون السبب هو منطقتنا المثقلة بالبيروقراطية والقيود التي تمنعنا من نشر أجنحتنا عاليا؟ إن بيئة الأعمال في البحرين جاذبة نسبيا، ولقد عمل سمو ولي العهد على حزمة من الإجراءات من بينها تسهيل اجراءات السجل التجاري، ومع ذلك، فإننا ندرك جيدا أن هذا ليس بالتأكيد هو الحال في الكثير من الدول التي تخنق مبادرات رواد الأعمال.
هل يمكن أن يكون السبب هو الحرب وعدم الاستقرار السياسي الذي يجعل من المستحيل على الكثير من الناس أن ينجحوا في أوطانهم؟ خاصة عندما نرى مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين يتدفقون إلى تركيا ولبنان والأردن وأوروبا وبينهم مئات الأطفال الذين كان ينبغي لهم أن يتوجهوا ليكونوا قادة أعمال ونجوم مبدعين، لكنهم الآن محرومين من التعليم ويتعرضون لفظائع لا يمكن تصورها وينتظرهم مستقبل قاتم.
هل يمكن أن يكون السبب هو ذلك المناخ الثقافي الخانق الذي يتسبب في وأد خيال أعظم عقولنا؟ لقد تعرَّضت الكثير من أعظم الشخصيات الفكرية والأدبية لدينا للاضطهاد والتهديد من قبل أولئك الذين يحملون أجندات أيديولوجية مختلفة، وهنا أسأل: هل يمكن لنا أن نتذكر اسم فيلسوف عربي يعيش بيننا؟
هل يمكن أن يكون السبب هو فشلننا في الاستثمار في العبقرية والعظمة؟ نحن نرى المملكة العربية السعودية تنفق الكثير على الاستثمار في جامعات الأبحاث والمرافق العلمية، ولكن في العديد من الدول العربية لا تتجاوز ميزانية البحث العلمي 0.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع حوالي 5٪ في العديد من الدول المتقدمة، ومن المحبط أن أعظم العقول لدينا تذهب لطرق أبواب الدول والمؤسسات الأجنبية للحصول على الاعتراف والدعم الذي يستحقونه.
هل يمكن أن يكون السبب هو ندرة فرص العمل المعروضة؟ تقريبا كل دولة عربية لديها مشكلة كبيرة في استيعاب ألمع وأفضل خريجيها، خاصة وأن القطاع الخاص بمعظمه مؤسسات صغيرة ومتوسطة أما القطاع العام فهو مصاب بالتضخم وقلة الانتاجية، وتبقى الإحصائيات صارخة بشكل خاص فيما يتعلق بتوفير فرص العمل للخريجين الإناث.
وعلاوة على ذلك، نجد أن الكثير من المتميزين أصيب بخيبة أمل عندما وجد نظام عمل عقيم لا يكافئ أصحاب الخبرات والمهارات المتميزة، وباتوا يتساءلون فعلا عن معنى أن تكون متفوقا في مكان لا يعترف أحد بإمكاناتك، بل ربما يحاربك لأنك متفوق.
رغم ذلك هناك الكثير من الأمثلة عن شخصيات ناجحة للغاية في وطنها، وأنا لا أنكر هذا، ولكن أعتقد لو أننا تفحصنا مسيرة هؤلاء الناس لوجدنا أنهم بذلوا جهودا مضاعفة جدا حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وتخطوا صعابا جمة، وكانوا استثناء صارخا بين كثير من نظرائهم الذين لم يتمكنوا من التغلب العقبات وتدمير الروح المعنوية ووجدوا أنفسهم-رغم تميزهم- في صفوف الناقمين.
نعمة النفط لن تدوم للأبد، لكن رؤى القيادات مثل سمو ولي العهد سلمان بن حمد آل خليفة وولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان آل سعود تدفعنا للتفاؤل بالمستقبل، وعلينا أن نسأل عن دورنا في هذا الرؤى بغية القيام به على أكمل وجه، وأن نفكر منذ الآن كما لو أننا في العام 2040 أو 2050.
لا شيء من هذا سهلا، ولكن التغيير الإيجابي يتطلب إتاحة المجال أكثر أمام تنمية الكفاءات الوطنية، والحد من هجرة الأدمغة، وتغيير ثقافة العمل السائدة، وجعل معيار التميز هو الكفاءة والانتاجية فقط، ويجب أن ننظر إلى كل واحد من شبابنا على أنه مجدي حبيب المقبل أو كارلوس سليم أو زها حديد.
هناك بوادر أمل تدعو للتفاؤل، فالكثير من العرب اللامعين في الخارج يتحدثون عن أحلامهم المستقبلية بالعودة إلى وطنهم، كما أرى أيضا جيلا من الشباب الذي يكبر وهو يدرك أن مستقبله ليس مضمونا تماما، وأنه عليه أن يعمل بلا كلل من أجل اغتنام كل فرصة تصادفه.
لقد قابلت العديد من الشباب الذين يملكون من الطاقة والشغف ما يجعلني أؤمن أنهم يستحقون العظمة، وهنا يجب علينا كمسؤولين في مختلف أماكننا أن نمهد لهم الطريق ونثق بجدارتهم في قيادة مستقبلنا ودفع مسيرة التنمية والازدهار في وطننا.