شهد العام 1077 بعض الأحداث المصيرية في العصور الوسطى بأوروبا والتي أثرت بشكل حاسم على ميزان القوى هناك.
قبل عامين من ذلك كان البابا غريغوري السابع قد حدد النسخة الخاصة به من “ولاية الفقيه الخمينية”، عندما رأى أن منصب البابا يمنحه أن يكون القوة العظمى على الأرض نيابة عن الله.
رفض الإمبراطور هنري الرابع هذا، وسحب دعمه للبابا، وعيَّن له الأساقفة الخاصين به، فرد البابا بالإعلان عن خلع هنري عن العرش، وكان هذا سببا ملائما تماما ليثور أعداء هنري وخصومه ضده، وتلى ذلك حالة من الفوضى، وفي نهاية المطاف كان الإمبراطور هنري في حال ضعف شديد حتى أنه سافر حافي القدمين يرتدي قميصا من الشعر -يرتديه التائبون والنادمون عادة-، يعتزم الركوع أمام البابا والتماس مغفرته.
هذه بالتأكيد ليست نهاية القصة، إنها مجرد إشارة ترمز إلى ضعف ملوك أوربا في ذلك الوقت وحاجتهم إلى التكفير عن ذنوبهم وطلب الصفح من البابا والنخب الدينية، ولم يكن هذا مجرد خلط بين الدين والسياسة، ولكنه كان انتصارا للدين على السياسة. ومع ذلك، عندما ننظر من زاوية أوسع لتلك الفترة التاريخية، فإنه يمكننا القول إن السياسة فازت في النهاية.
لقد نخر الفساد في البابوية وانهارت قداستها جرَّاء توريطها لنفسها في الأعمال السياسية القذرة، وفقدت رهبة السلطة الإلهية التي تخوِّل البابا غريغوري جلب أقوى ملك في أوروبا على ركبتيه، وإذا أردنا أن نستخلص الشيء الأهم من تلك الفترة التاريخية فهو أنه عندما يتدخل الدين بالسياسة فإن كلاهما يفقد مصداقيته بشكل لا يمكن إصلاحه.
الدين يتحدث في الروحانيات والكماليات، فيما السياسية تنشط في المناطق الرمادية وتقوم على “فن الممكن”، كما أن عالم السياسة والأعمال يتطلب قرارات صعبة وأحيانا تنازلات أخلاقية وأفعالا قاسية عديمة الرحمة.
معظمنا يريد أن يرى رجال الدين وقد أبقوا أيديهم نظيفة من هذه الأمور القذرة، ويؤمن أن أنقياء القلب فقط منهم يمكنهم أن يقودوا ويوجهوا سلوكنا الأخلاقي والديني.
في إيران مثلا وصلت معدلات الفقر بين عامة الشعب إلى مستويات قياسية، وخرج الناس هناك في مظاهرات للمطالبة بتحسين رواتبهم بدل الإنفاق على الحروب العبثية والتدخلات الخارجية وإثارة الفتن خارج الحدود، وإنفاق الأموال على تنفيذ أجندات إيديولوجية على حساب احتياجات المواطنيين الإيرانيين الأساسية في الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم وغيرها.
بالمقابل نرى أن دستور مملكة البحرين لعام 2001 كان وثيقة عصرية بكل المقاييس، فقد مايز بشكل لا لبس فيه بين المجالات السياسية والدينية، وضمن الحريات الفردية والفكرية، وكرَّس المساواة بين المواطنينن والتسامح في المجتمع، ذلك رغم المحاولات البائسة والمتكررة من قبل أصحاب الأجندات الطائفية لاختطاف النظام السياسي وفرض أجنداتهم الخاصة.
في الإطار ذاته يمكن وضع الاقتراح الصادر عن مجلس الشورى مؤخرا بخصوص منع رجال الدين من ممارسة السياسة، والترحيب الواسع بهذا الاقتراح يمثل أيضا وعيا كبيرا بمخاطر الخلط بين الدين والسياسية، فليس من العدل بطبيعة الحال أن يستخدم رجل الدين المنبر للترويج لنفسه كمرشح للبرلمان، أو للمضي قدما في أجندة أيديولوجية لفصيل معين.
لكن مجتمعاتنا ما زالت تقليدية نسبيا مع الأسف، ولدينا ميل قوي للاستماع باحترام لما يقوله رجل الدين، حتى عندما يتحدث في قضايا لا يعرف عنها شيئا!.
وهذا لا زال يسبب مشكلة متكررة في مجلس النواب، فرغم قلة عدد النواب الإسلاميين إلا أنهم يمارسون تأثيرا أكبر من حجمهم، وتمكنوا بالفعل في العديد من المناسبات من إسقاط أو تعطيل تشريعات مهمة لحماية حقوق المرأة والأسرة وغيرها.
لقد تحولت أوربا من كونها “حضارة ولاية الفقيه” حيث كلمة البابا منزلة وغير قابلة للنقاش، إلى حضارة المجتمع العلماني الأكثر تقدما في العالم.
سيكون من المفيد لرجال الدين أن يدركوا جيدا أنهم عندما يتجاوزون حدودهم ويستخدمون نفوذهم للتأثير على القضايا العامة خارج نطاق الديني والروحي، فإن النتيجة النهائية المتوقعة دائما هي تضاؤل نفوذهم، لأن هذا سيؤدي إلى تشويه سمعتهم في نهاية المطاف.
نحن ننتظر ونتوقع من رجال الدين لدينا أن يمارسوا دورهم في الوعظ والإرشاد الديني وتكريس مكارم الأخلاق، ولا نتوقع أن أحداً في القرن الحادي والعشرين يستعين برجال دين من أجل التنبؤ بالبورصة!.
إن مبدأ الفصل بين الدولة والدين ينظر إليه غالبا على أنه أيديولوجية تهدف للحد من الدين، والحقيقة أن الأمر عكس ذلك، حيث أن هذا المبدأ يسمح للمؤسسات الدينية بالعمل باحترافية ونزاهة في المجالات الخاصة بها، والحيلولة دون إقحام تلك المؤسسات في المجالات الدنيوية غير الروحانية.
أود الذهاب إلى حد دعوة رجال الدين أنفهسم للنظر في مصلحتهم على المدى الطويل، وإدراك أن مصلحتهم العليا تكمن في الحفاظ على حدود واضحة بين الدين والدولة، وهذا أفضل لنا جميعا.