شغلت الخطوات التي اتخذتها دول الخليج العربي إزاء لبنان بالي على مدى الأسوعين الفائتين، وفكرت ملياً في تبعات عزل لبنان عن محيطه العربي عبر إيقاف الدعم المالي عنه وتحذير مواطني دول مجلس التعاون بعدم السفر إلى هناك.
دعونا نكون واضحين جدا، لقد كان لبنان دائماً واحدا من أبرز الدول العربية رغم صغر مساحته، ولعب دورا محوريا في صياغة تاريخ المنطقة الحديث، وانتج مجموعة مذهلة من الفلاسفة والفنانين والشعراء والكتاب والموسيقيين وعدد من أكبر العقول إبداعا في المنطقة.
أنا من الجيل الذي يتذكر بيروت قبل الحرب الأهلية باعتبارها القلب النابض للوطن العربي، وكانت في تلك الفترة تقود التقدم الاجتماعي والثقافي والفكري في المنطقة، وحقق لبنان انجازات عظيمة وساهم في تشكيل الهوية العربية، لكن لبنان كان أيضا على الدوام نموذجا مصغرا للمنطقة، بما تضمه من توترات وتناقضات، معضلات وتعقيدات.
وحتى اليوم، تؤكد القوى السياسية اللبنانية الرئيسية عروبتها وبعدها القومي، لكننا جميعا نعلم أن لبنان كدولة اليوم مختطف إلى حد كبير.
ما يجري اليوم ليس جديدا تماما على اللبنانين، فلسنوات عديدة عملت القيادة السورية للهيمنة على جميع مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، وجاءت الائتلافات الحكومية وذهبت بناء على توجيهات عليا من دمشق، في حين سعت القوى الغربية وغيرها لتوسعة نفوذها على البلد أيضا.
ولكن مع تفجر الأزمة السورية وصل حد التدخلات الخارجية في لبنان إلى حد بات لا يضر لبنان نفسه فقط وإنما الوطن العربي كله، وهذه هي الحقيقة المأساوية التي يدركها المواطن اللبناني اعتمادا على تجربته الشخصية.
وفي ظل المناخ السياسي والاقتصادي غير العادي نجد أن المملكة العربية السعودية لديها العديد من الأولويات أكثر إلحاحا من استثمار مليارات الدولارات في دولة غير مستقرة تتجاذب الاضطرابات ولاءات طبقتها السياسية، في حين بعض الكيانات في تلك الدولة تحمل رؤية معادية أساسيا لمصالح المنطقة وشعوبها.
لهذا نحن نتفهم تحفظات قادة دول مجلس التعاون الخليجي إزاء تمويل صفقات أسلحة للبنان، فمن المرجح جدا أن تقع هذه الأسلحة في الأيدي الخطأ وتستخدم ضد حلفاء لبنان الحقيقيين المتمثلين في دول مجلس التعاون والدول العربية وشعوبها.
يحزنني أن أرى ما يحدث، وأتألم بشدة لرؤية عدد من الدول العربية تفتته الحرب الأهلية أو تتنازعه عدة اتجاهات خاطئة. أنا عربي، لبناني المولد، وأنا فخور بأن تكون العروبة جزء لا يمحى من هويتي، وانتمائي واهتماماتي ستبقى دائما مربوطة بإحكام في مسقط رأسي.
إن اختطاف لبنان على هذا النحو وإبعاده عن امتداده القومي يصيب بالألم أيضا كثير من الناس في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي، فالجميع هنا أمضى بعض الوقت في لبنان، أو يحمل ذكريات جميلة عن لبنان، أو لديه علاقات شخصية وتجارية وثيقة مع أشخاص وشركات لبنانية، لذلك أعتقد أن الجميع يرغب بإنهاء حالة التوتر في لبنان ومع لبنان، بعد أن يعود لبنان لجادة الصواب.
وكل ذي نظرة ثاقبة ومتتبع لأحداث المنطقة يعلم تماما أن هؤلاء الناس الذين يعملون ضد المصالح اللبنانية والعربية سيستيقذون يوما ويدركون أن القوى الخارجية التي يخدمونها بإخلاص لا تريد الخير والاستقرار للمنقطة وشعوبها، وليس لديها أي احترام أو فهم حقيقي للثقافة العربية، وستتخلى عن وكلائها في الوطن العربي بعد انتهاء صلاحيتهم وتتركهم مع النفايات.
للأسف، نحن العرب لا ندرك أهمية ترك الخلافات الصغيرة والكبيرة جانبا والسعي الجدي نحو التجمع في قوة واحدة سياسية واقتصادية وحتى عسكرية، إلا أن أعداءنا يدركون خطورة هذا عليهم، وبالتالي يسعون إلى تأليبنا ضد بعضها البعض.
لنتخيل فقط لو أن جامعة الدول العربية استطاعت تحقيق الهدف من إنشائها، وتحولت إلى منظمة ذات مغزى تمثل جبهة موحدة من دول قوية وموحدة، وهنا أسأل: لماذا أصبح مجرد التفكير بذلك مثارا للسخرية لدى الكثير من العرب وغيرهم؟ فيما نجد كيانات دولية مثل الاتحاد الأوروبي تتحدث دوله أكثر من عشرين لغة مختلفة وليس لديها ما يجمعنا نحن العرب من تاريخ وثقافة ولغة وغيرها؟!
عندما نتوقف عن تدمير أنفسنا بناء على طلب من الآخرين، وانتبهنا أكثر إلى نقاط قوتنا من موارد الطبيعية وقوى بشرية، وعززنا إرادتنا المستقلة وثقتنا بأنفسنا، سنجد أن العالم بات يحترمنا، بل ويهابنا أيضا.
قدر لبنان أن يكون صورة مصغرة لكل تلك الانقسامات وغياب القدرة على الوحدة والإنجاز، واليوم يواجه لبنان أخطار سياسية واقتصادية وديموغرافية باتت تشكل تهديدا وجوديا له بالفعل.
رغم ذلك لا زلت أعتقد، بل أؤمن، أننا سوف نعيش لنرى يوما نضع فيه هذه الانقسامات جانبا، ونتمكن من إبعاد أولئك الذين يكرهوننا، ونرى لبنان وقد عاد مرة أخرى جوهرة الأمة العربية ومصدر فخارها.