اعتقد جازماً أن أشد الناس جوعاً للنجاح في مجتمعنا هم أؤلك الذين يعرفون جيدا ما الذي يعنيه الجوع، وإذا كانت “الحاجة أم الاختراع” فإن “الجوع أبو الهمم ومحركها”.
الكثير من أصحاب المشاريع الريادية الخلاقة الذين أقابلهم في القطاع الخاص لم ينحدروا من علائلات ثرية، وإنما يسعون بكل طاقاتهم لتحقيق النجاح لأنهم عانوا من طحن وسحق الفقر.
وبالمثل، فإن الاقتصاديات التي تزدهر ليست تلك التي توفر لها الدولة الأموال وتحميها، وإنما هي الاقتصاديات التي تواجه تحديات جمة تجعلها أكثر قدرة على المنافسة والازدهار.
في العام 1960 في بريطانيا كانت هناك مئات المحلات التجارية الصغيرة المهددة بالإغلاق نتيجة قلة إرباحها، لكن جرى إنقاذ تلك المحال من قبل أسر مهاجرة كانت على استعداد للعمل لساعات طويلة بأجور منخفضة، وهذا ما أسهم في إعادة الحياة لتلك المحلات بل وتحول بعضها إلى مناجم ذهب.
نجاح هذا النوع من الأعمال يعتمد على توفر حس المغامرة لدى القائمين عليها، واستعدادهم لتقديم منتجات وخدمات بطريقة مبتكرة، وإقدامهم على التجربة وارتكاب الأخطاء، والتعلم من تجارب وخبرات الآخرين، والقدرة على خفض التكاليف وتوفير الموارد بأقل ثمن وتعظيم الأرباح.
وكانت جاذبية القطاع الخاص في عدد من دول الشرق الأقصى دفعت الأسر الفقيرة لتوفير كل قرش من دخلها واستثماره في الأعمال التجارية الصغيرة، واختارت تلك الأسر تحمل شظف العيش من أجل ضمان مستقبل أفضل لها ولأطفالها.
ومن المحزن القول إن الرغبة في العمل لساعات طويلة، والاستعداد لاستثمار فائض المال في مشاريع ناشئة، والإقدام على التجربة والمخاطرة، هي أمور غريبة عن ثقافتنا، فقد تربينا على الاعتقاد بأن الثروة تهبط علينا من السماء، وعلى الدولة ضمان رفاهيتنا دون أن نقوم بأي عمل.
أنا لا أقول إن على الدولة التخلي عن مسؤولياتها، فالحكومة ملزمة باستخدام كل فلس لتحقيق أقصى قدر من الرفاهية لمواطنيها، ولكن هل لدينا مفهوم أو تصور مشترك حول ما يعنيه “تعظيم الرفاهية” في المجتمع؟
كما هو معروف، في منتصف القرن العشرين استثمرت العديد من الدول العربية الناشئة بشكل كبير في حماية اقتصاداتها وخلق الآلاف من فرص العمل لمواطنيها، لكن بعد عقود قليلة اكتشفت تلك الدول أن اقتصادها في حالة موت سريري بعد أن “قتلته حباً”، فكان غير قادر على المنافسة، ولا يستجيب لاحتياجات المستهلك، وتضخم القطاع العام وانهارت انتاجيته وأصبحت مؤسساته عبئاً على الدولة والمجتمع.
في الأوقات الطيبة -وخاصة خلال الطفرة النفطية- يمكننا تجاوز عثرات هذا الواقع الاقتصادي المختل عبر التعويل على عوائد النفط، لكن في أوقات الأزمات فقط نجلس ونفكر: هل يمكن لحياتنا أن تكون مختلفة؟
الآن، وعقب انهيار أسعار النفط واضمحلال عائداته وتعثر الاقتصاد، بات من المؤكد ازدياد أعداد الأسر التي تعاني من الجوع. ولكن هل سيدفعها هذا الجوع إلى العمل والنجاح؟. لدينا العديد من الشركات التي تواجه صعوبات كبيرة، ولكن هل سينتج ذلك رجال أعمال قادرون على الصمود والابتكار؟
شعورنا بالجوع اليوم يحمل أوجهاً عددية، نحن جوعى لرؤية مؤسساتنا تزدهر وتجني الأرباح، وجوعى لرؤية المزيد من الأموال في أرصدتنا، وجوعى لرؤية المزيد من الفرص لأطفالنا.
أنا أحيانا أسأل طالب العمل لدي مازحاً: هل أنت قنَّاص فرص أم تريد فقط العيش على بقايا طرائدي؟، أنا أبحث عن الأشخاص الذين لا يسعون خلف الراتب الشهري فقط، وإنما أؤلك المبادرين ذوي القدرة على استشكاف فرص الأعمال الجديدة واقتناصها.
أنا أتفق مع الرئيس التنفيذي لمجلس التنمية الاقتصادية خالد الرميحي الذي أكد في العديد من المناسبات على ضرورة الاستثمار في مجال الابتكار والإبداع والمواهب، أي مساعدة الشباب على مساعدة أنفسهم.
نحن جميعا نحمل هذا الميل للابتكار وحب التجربة منذ لحظة ولادتنا، لكن التنشئة الاجتماعية الخاطئة تزرع الخوف في داخلنا وتطفئ شعلة الابداع والإقدام والتفكير الحر.
دعونا لا نكتفي بمجرد الجلوس وانتظار الحكومة لتخفف من جوعنا، ودعونا لا نكتفي بمجرد الجلوس والتذمر إزاء فشل الحكومة في القيام بذلك.
إذا قامت الحكومة غداً بدفع 100 دينار إضافية على المعونة الاجتماعية فهل يمكن أن نستفيد من ذلك حقاً أم سنصرف هذا المبلغ فوراً ونجلس نرتقب ونطالب بمئة دينار أخرى؟
نحن نحقق الأفضل لأنفسنا ولعائلاتنا كلما استعطنا التحكم أكثر بطريقة حياتنا ومصادر دخلنا وأوجه إنفاقنا، وعلينا أن نتعلم الدرس جيدا من جوعنا وفقرنا، وأتعهد لكم بناء على تجربتي الشخصية أن هذا الفكر هو نقطة الانطلاق الأساسية لجميع المبادرات الرائدة الكبرى.