يميل البشر في هذا الجزء من العالم إلى أن يكونوا أنانيين جدا في أولوياتهم، ويركزون اهتماماتهم قبل كل شيء على رفاهية أنفسهم وعائلاتهم، وفي الدرجة الثانية الدائرة الضيقة من الأصدقاء والمعارف، دون حرص يذكر على ضرورة مطابقة تلك الأولويات لأولويات المجتمع، ودون مراعاة ما يسمى بـ “الصالح العام” أو “الهوية الوطنية” للمجتمع والأمة.
من هم الناس الذين يتشاركون معنا الهوية؟ من دون شك نحن نعتبر أنفسنا أقرب لأولئك الذين نتقاسم معهم التاريخ واللغة والدين والتراث الوطني. لكن الهوية تتغير، وربما يمنح بعضنا وقتا قليلا للتفكير بالهوية الوطنية حتى في حال حدوث أزمة وطنية.
البعض يجادل حول أن الهوية الوطنية هي أمر يجب غرسه في نفوس الناس باستخدام التربية والإعلام كما يحصل في دولة عظمى كالصين مثلا، إلا أن التجارب أظهرت أن الناس قادرين على التمرد على الأفكار والممارسات مهما كثرت محاولات غرسها فيهم، حدث ذلك في الاتحاد السوفيتي عندما تفكك، وفي العراق، وليبا، وأماكن كثيرة حول العالم.
اللغة أيضا هي أحد العوامل في تكوين هويتنا الموحدة ولكن ليس كلها، فنحن جميعا نتحدث اللغة العربية، إلا أنه من اللافت للنظر كيفية انطواء جماعات منا على لهجة معينة، فالحديث باللهجة البحرينية لا يعني فقط أنك بحريني، وإنما يعني ارتباطك بأناس في مدينة أو قرية يتحدثون اللهجة ذاتها، وبالتالي تمايزك عن أناس آخرين يتحدثون العربية لكن بلهجة أخرى، وهذا في جانب منه عامل تفريق وليس عامل جمع.
الحروب الأهلية الدائرة في دول مجاورة تذكرنا أن الناس يضعون أحيانا هويتهم الوطنية جانبا والبحث عن هوية طائفية أو عرقية أو سياسية تتعارض في كثير من الأحيان مع الهوية الوطنية. كيف يمكن مثلا للموالين للرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح تبرير تحالفهم مع الحوثيين المدعومة من إيران؟
الدين هو أحد عوامل بناء الهوية، وليس كل العوامل، فالإسلام يساعد على خلق شعور بالانتماء إلى المجتمع، والهوية الإسلامية توحدنا، ولكن الهويات الطائفية الضيقة تطل برأسها في مناطق لم تعتد ظهورها من قبل، وتؤدي لتمزيق المجتمع وتنافر الناس عن بعضهم البعض.
الدين في مفهومه العام لا يجعلنا غير متسامحين، ولكن تيارات متشددة تفصل الهوية الدينية وفقا لمصالحها، ونغلق على ذاتها وترفض أتباع الديانات الأخرى أو حتى المختلفين معها من نفس الدين.
المعتقدات الأساسية عند المسلمين السنة والشيعة متشابهة في نواح كثيرة، ولكن رجال الدين ذوي النزعة الطائفية يركزون كليا على ما يجعلنا مختلفين، بل متحاربين، ويذهبون إلى أبعد من ذلك بوصف المختلف معهم بالمخطئ وربما يهدرون دمه، والنتيجة هي الدخول في دوامة من التعصب والتعصب المضاد تقسِّم المجتمع الواحد إلى أجزاء متحاربة.
عندما اطلعت عن كثب على البروتستانت والكاثوليك الإيرلنديين عجزت تماما عن فهم الاختلافات الدينية التي قسمت مسيحيتهم إلى مكونين متحاربين، ولكن مستويات الكراهية ارتفعت بينهما ولم يعد أحد يفكر في أصل الخلاف. وكذلك أسفرت خلافات سياسية ذات صبغة دينية عن مقتل مئات آلاف البشر في جنوب السودان وشماله، ومناطقة مختلفة من العالم.
لكن في عالمنا اليوم نرى أن التكنلوجيا والمصالح انتصرتا على الديموغرافية والحدود وربما الوطنية بمفهومها التقليدي، في دول الخليج العربي مثلا يتجلى بوضوح كيفية انتشار عائلات كبيرة على عدة دول خليجية، وكيفة اندماج أعداد هائلة من المغتربين مع هذه الأرض مع احتفاظهم بدرجات متفاوتة بهوياتهم الوطنية، وهذا ربما يؤكد ضرورة تطوير مفهومنا للهوية.
وغالبا ما يستند الاعتقاد في التفوق الثقافي على شعور ضمني بالنقص، وهنا علينا أن نتعلم التسامح وقبول الثقافات الأخرى. ربما تكرهني لقوله ذلك، ولكن نحن لم ولن نستطيع إذابة الجميع في بوتقة هويتنا الإسلامية، وربما علينا التوقف عن محاولة ذلك.
في العالم المعاصر علينا احترام الاختلاف، مع الحفاظ على شعور واضح بالهوية الخاصة بنا، التسامح يجب أن يكون جزءا من هويتنا، والتسامح يأتي عندما نتخلى عن مخاوفنا غير المبررة بأن الثقافات الأخرى قد تطغى على منطقتنا، يمكننا أن نركن إلى عوامل الدين والتاريخ واللغة والثقافة التي تشكل هويتنا، لكن مع وجوب اعترافنا أن أمامنا الكثير لنتعلمه من نماذج الحياة خارج حدودنا.
لقد أنعم الله تعالى عينا بموارد عظيمة يمكننا أن نرفع من مستويات تمتعنا بها عندما نتوقف عن محاربة بعضنا البعض عليها، يمكننا أن نكون ويجب أن تكون فخورين لكوننا عرب، وفخورين بتراثنا العربي وبكل ما حققناه عبر العصور، ولكن مفهوم الهوية اليوم تعقد واتسع ومزج بين المحلي والعالمي.
يجب ألا يدفعنا ولائنا الشديد للقرية مسقط رأسنا للانغلاق والتقوقع على ذاتنا وعلى من يشبوهننا فقط، وإنما يجب أن نوسع أفقنا ونكون أكثر قدرة على الولاء للإنسانية جمعاء.