لا يكاد يمر يوم دون أن نقرأ في الصحف المحلية عن سعي الحكومة الدؤوب لتسريع وتيرة المشاريع الإسكانية من أجل توفير منازل بأسعار معقولة للمواطنين، وسط اتفاق كامل بين الجميع من مسؤولين ونواب ومواطنين على أن ملف الإسكان هو الأولوية رقم واحد في مملكة البحرين.
لكن ما الذي يحدث عنما اتصل هاتفيا للتحدث إلى مسؤول في وزارة للحصول على موعد لبحث تطورات العمل في مشروع إسكاني كبير أعمل عليه حاليا؟ مشروع طموح من شأنه توفير سكن لأكثر من ألف أسرة من ذوي الدخل المنخفض.
قيل لي أن سعادة المسؤول مشغول جداً وليس لديه وقت للتحدث معي، وأنه سيتواصل معي لاحقاً، ومنذ نحو شهر وأحدى عيناي على هاتفي بانتظار تكرَّم سعادته بالتواصل معي، والأخرى على المشروع الذي أريد أطلاقه بأسرع ما يمكن.
موضوع آخر نقرأ عنه باستمرار في الصحافة البحرينية هذه الأيام هو السياحة، فقد قيل لنا إن أحد حلول سد العجز في ميزانية الحكومة بسبب انخفاض الإيرادات النفطية سيكون الاستثمار في البنية التحتية السياحية في البحرين.
على ضوء ذلك، اتصلت منذ نحو ثلاثة أسابيع بمسؤول آخر في مكان آخر لمناقشة توسيع منتجع سياحي أملكه آملاً الحصول على استجابة بناءة ومفيدة، لكني لم أتلق رداً على مكالماتي ورسائلي طيلة الأسابيع تلك، وهنا أسأل: ماذا يفعل هؤلاء المسؤولين طيلة يوم عملهم؟ الأمر الذي يجعل منهم مشغولين جداً وغير قادرين حتى على استقبال مكالمة هاتفية بسيطة؟ !
على الصعيد الشخصي اتصلت بمسؤول ثالث مستفسرا عن أعمال الصرف الصحي أمام منزلي وسبب توقف هذا المشروع منذ قرابة سنوات، وبالكاد تناول المسؤول الهاتف ليرد علي بكلمة واحدة قاطعة “لا”، لكن صدمة المفاجأة دفعتي للرد: اعذرني سعادتك، ألا أستطيع حتى أن أبدأ بالقول صباح الخير؟!
اعتقد أن كلامي أثَّر في هذا المسؤول المحترم، لقد صمت للحظات قليلة قال بعدها “صباح النور”، وأضاف “لا اعتقد أن هناك كثيرا من الموظفين المهذبين الذين لديهم رغبة باستخدام جمل لطيفة أثناء حديثهم مع العملاء”!.
يمكنني أن أسرد عليكم مشابهة لساعات، وأعلم أنه من المحتمل أن يكون لديكم عشرات القصص المماثلة، ويمكن أن ننظر للأمور بحسن نية لنقول إنه ربما هؤلاء المسؤولين الذين حاولت الاتصال بهم مشغولين جدا فعلا، ربما منشغلون بشكل عاجل جدا بملفات ذات أهمية وطنية أكبر بكثير من مشاريعي المتواضعة!.
لكن لا يسعني هنا إلا أن أعرب عن أسفي، خاصة وأنني وبعد عقود من العمل مع الإدارات الحكومية أعرف جيدا كيف تسير الأمور هناك.
لطالما كان سبب الصعوبات التي تواجهنني على صعيد أعمالي أو الصعيد الشخصي هم المسؤولين في الإدارات الدنيا أو المتوسطة، بالمقابل أجد تجاوبا كبيرا ودائما من قبل كبار المسؤولين الحكوميين، واستطيع القول إنهم يجيبون على تسعة من أصل عشر مكالماتي، حيث ندخل في نقاش مثمر وبناء بطريقة ودية ومفيدة، وهم يظهرون دائما أعلى درجات التفهَّم لما أقوله والاستعداد للعمل سويا لتجاوز التحديات التي أطرحها عليهم.
في كثير من الأحيان نجد أن قرارا مهما وملحِّا يجري اتخاذه بسرعة من قبل وزير ما، لكن مسؤولي الإدارات المتوسطة والدنيا يُدخِلون هذا القرار في دوامات البيروقراطية المقيتة، حتى يصبح سببا في كثير من التشويش واللغط بسبب التأخير في تنفيذه، وهو تأخير ليس له سبب واضح سوى الكسل المطلق أو عدم وجود أي دافع لتلبية احتياجات الناس.
هل أبالغ إذا قلت إن يأساً كبيراً يصيبني عندما أرى أن تغيير بسيط في عنوان منزل أو شركة يتطلب الحصول 12 توقيع من 12 دائرة حكومية مختلفةَ؟!.
بالمقابل نرى أن 95% من القرارات المهمة يجري تنفيذها بنجاح ويسر وسلاسة من قبل عدد قليل من المسؤولين في الإدارات العليا، لكن ما يثير الدهشة هو الحاجة للحصول على موافقة إدارات عليا على قرارات بسيطة تعتبر من مقتضيات العمل اليومي، فهل يعقل حصر 95% من العمل في 5% من الناس فقط؟ فيما البقية لا يعملون؟ وهل هذا عدل؟ وهل يعني أن الأداء الحكومي يتسم بالفاعلية حقا؟
لدي ما يكفي من الخبرة في الدوائر الحكومية لأقول إن هؤلاء المسؤولين الذين هم “مشغولون جدا” للرد على مكالمات الناس إنما هم يمضطون وقتهم حقيقة في شرب القهوة وتصفح الفيسبوك والتحدث مع أصدقائهم بانتظار أن يحين وقت عودة إلى بلادهم. هذا النوع من ثقافة العمل يشكل إهانة للمواطنين البحرينيين الذين يريدون أن يروا حلولا سريعة للقضايا التي يهتمون مثل الإسكان والخدمات وفرص العمل.
كرجل أعمال، لا أستطيع أن أدعي أني خبير في الأعمال الداخلية للدوائر الحكومية، رغم ذلك أنا أعلم شيئا أو اثنين عن الإدارة: أولهما أنه يجب علينا توظيف الأشخاص دائما على أساس الكفاءة، وثانيهما ضرورة البحث الدائم عن موظفين من ذوي المهارة والخبرة والدافع للنهوض بالمهام الموكلة إليهم على أكمل وجه.
يجب تمكين الموظفين لتنفيذ المهام المسندة إليهم، والعمل على إعدادهم وتدريبهم، بالمقابل يجب أن يكون هناك تقييم دقيق لنتاجهم، ومعرفة هل هم فعلا يؤدون ما هو متوقع منهم أم لا، وإذا كان أحد الموظفين ليس لديه الرغبة أو القدرة على النهوض بالمهام التي توكل إليه، فيجب أن أن يكون واضحا أمامه أنه لن يبق في مكانه لفترة طويلة.
ويجب على الموظفين في القطاعين العام والخاص أن يدركوا أن هدفهم الأساسي هو خدمة العملاء، خاصة في الأقسام الحكومية ذات التماس المباشر مع الناس، والتي يجب أن تكون استجابتها مباشرة ومفيدة دائما.
ليس القصد من هذا المقال مجرد تسليط الضوء على الضرر البالغ الذي يسببه بعض موظفي الإدارات المتوسطة غير الكفوئين، وإنما القضية الأوسع هنا هي ثقافة العمل بحد ذاته، ورفع سقف التوقعات من الموظفين، وتعزيز انتاجيتهم.
لقد نظرنا إلى برنامج العمل الحكومي 2015- 2018 كوثيقة طموحة تعهد آلاف وحدة سكنية جديدة للبحرينيين، وإدخال تحسينات على الخدمات العامة، وزيادة الإيرادات الوطنية وخلق فرص العمل، لكن ترجمة هذه الطموحات إلى أرض الواقع يتطلب تطلبيق معاير الحكم الرشيد وتحسين المساءلة لموظفي الإدارات العامة، وتعزيز المهارات الإدارية لضمان أن الموظفين منتجين ولديهم دوافع لتأدية عملهم على أكمل وجه، والتأكد من أنهم يحظون بحق التدريب ولديهم الأدوات والصلاحيات اللازمة للقيام بعملهم.
لقد شدد سمو رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة وسمو ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة مرارا وتكرارا على أن واجب الحكومة الأول هو تلبية احتياجات المواطنين وفق أعلى معايير الجودة والأداء، وخاصة في مجالات إسكان ذوي الدخل المنخفض والسياحة. وأود أن أتقدم بالشكر والتقدير للمسؤولين والموظفين الذيين يحققون رؤية قيادتنا الرشيدة في خدمة الوطن.
أكرم مكناس