من خلال اهتماماتي بتقنيات التصوير وتحريك الصورة، أدرك تماما أن الانسان اكتشف النار واستثمرها بالتدفئة والإنارة وطهي الطعام، ثم ارتقى بفكره محاولا فهم الظلال المتشكلة للأجسام التي تحجب إضاءة النار، وكان هذا أحد مراحل التفكير التي قادت إلى اختراع الكاميرا، دون أن ننسى أن العالم العربي المشهور ابن الهيثم هو مخترع الكاميرا، وقد سماها بالقُمرة -أي الغرفة المظلمة- وعرفت فيما بعد في العالم بهذا الاسم قبل أن يجري تحريف الكلمة في معظم اللغات إلى الكاميرا.
لكن ضلالي وظلاميي هذا الزمان استخدموا النار في أمور أخرى، استخدموها في حرق أجساد من يفترض أنهم أخوتهم في البشرية، والأنكى من ذلك أنهم وثَّقوا جرائمهم بالصورة والصوت، هادفين من وراء ذلك إلى دب أكبر قدر ممكن من الرعب في قلوبنا.
لقد كانت البحرين بداية انطلاقتي الثانية بعد لبنان، كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، وحظيت مدينة المنامة باختياري لأنها مركز إشعاع علمي فكري ثقافي أدبي في جزيرة العرب كما هي بيروت في بلاد الشام، ولا زالت.
في شهر ابريل من العام 2011، وفيما كانت تداعيات أزمة أحداث فبراير ومارس في ذروتها، افتتحت في متحف البحرين الوطني معرض “تاريخ الاستريوغراف.. الصور ثلاثية الأبعاد”، مُلبِّاً بذلك بكل ترحاب طلب وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة في توقيت برهن آنذاك على قدرة البحرين على احتضان مختلف الفعاليات وبخاصة الثقافية والسياحية منها كما كانت في السابق، وفي مارس 2013 أسست في الإمارات العربية المتحدة متحف دبي للصور المتحركة، وهو واحداً من المتاحف القليلة في العالم التي تركز على تاريخ الصور المتحركة.
أكتب ذلك لأؤكد أنني بت اليوم أكثر إصرارا على مواصلة الفعاليات الثقافية التي أنظمها، لأننا أحوج ما نكون الآن إلى إنارة أفكارنا وفتح نوافذ عقولنا على الآخر وإغناء التنوع الثقافي والفكري، معتمدين في ذلك على أنفسنا، نحن أبناء هذه الأرض، في وقت يبدو أن الدول مجتمعة، ممثلة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، عاجزة عن وقف النزيف الثقافي العالمي الخطير في منطقتنا، حدث ذلك عندما سقطت بغداد وتركت آثار العراق وبلاد الرافدين عرضة للنهب، وعاد المشهد ذاته ليتكرر موخرا مع داعش عندما حطمت آثار الموصل وجرَّفت مدينة النمرود الأثرية، ولم توفر حتى المساجد.
الحالة الأولى، أي حالة النهب على قساوتها تبقى أقل خطرا، فإذا سلَّمنا أن التاريخ الحضاري والثقافي هو ملك للبشرية جمعاء فإن الآثار المهرَّبة من دولة إلى أخرى بغرض الاتجار بها لن يطالها أذى، وربما تعود بعد فترة كما يحدث عادة، لكن الخطورة الأكبر تأتي من قيام داعش بتحطيم تلك الآثار وإزالتها من الوجود إلى الأبد.
كما أن هجمية داعش طالت أيضا آلاف الكتب والمخطوطات، عندما فجر المبنى المركزي لمكتبة الموصل في منطقة الفيصيلة وسط المدينة، وحرق محتوياتها من الكتب والوثائق والمخطوطات التي بينها مؤلفات نادرة.
هل يمكن لعاقل أن يبرر سبب قيام متشددين بقطع رأس تمثال للشاعر ابو العلاء المعري في مسقط رأسه مدينة معرة النعمان شمال غرب سوريا؟ هل لأنه صنم؟ هل كانت الناس تتقرب بهذا التمثال إلى الله تعالى مثلا؟ ماذا سيحدث لو لا قدر الله سيطر هؤلاء المتشددون على مصر مثلا؟ هل سيقطعون رأس أبو الهول؟
المتاحف مخازن التاريخ، وعديمي العقل هؤلاء يريديون مسح التاريخ، بالأحرى هم يريديون إيقاف تاريخ البشيرية عند نقطة معينة، ومسح كل ما قبلها وما بعدها، وصب البشر جميعا في قالب واحد، والقضاء على أي مظهر من مظاهر التنوع الفكري والثقافي المتراكم لدى البشرية منذ فجر التاريخ.
أي مستقبل أسود يبشرنا فيه هؤلاء؟ أي مجتمعات سيبنون في وقت يبدو فيه أن نتائج تدمير داعش للآثار وللرموز الدينية لا تقتصر على مسح التاريخ، بل تتعدى ذلك إلى تغذية النزاعات الطائفية والتطرف في منطقتنا.
لقد رأى العالم كله معاول الهدم الداعشي تحطم آثار الآشوريين العظيمة في متحف الموصل، ثاني أكبر متحف عراقي بعد متحف بغداد، وكيف يحتفل ثلة من السذج مغسولي الدماغ بهذا الدمار دون أن تكون لديهم أية فكرة عن العواقب المترتبة على ما أقدموا عليه.
أعود لأؤكد أن العالم فشل في حماية تراث منطقتنا الحضاري لأسباب مختلفة، من بينها عدم حاجته لثقافتنا كما هو بحاجة لنفطنا مثلا، فقد دعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونيسكو” مجلس الأمان نهاية فبراير الماضي لعقد اجتماع طارئ عقب نشر تنظيم “داعش” فيديو يظهر تحطيمه آثارا بمتحف الموصل، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ لا شيء، لا شيء أبدا.
إن أحد أساليب مواجهة هذا الظلام الفكري هو إنارة جوانب مهمة من تاريخنا الثقافي، بما في ذلك الإنجازات الكبيرة التي قدمها العلماء المسلمون للبشرية جمعيا، وإن جزء كبير من هويتنا الحضارية وأخلاقنا يأتي من فهمنا لتاريخنا وثقافتنا اللذين يشملان التاريخ الإسلامي وتاريخ ما قبل الإسلام أيضا، وبمحو داعش لتلك القطع الأثرية التاريخية، فإنهم يزيلون معالم التراث الثقافي الذي يفصل البشر عن الحيوانات البدائية، فيما هم يمعنون في تقديم دليل بعد آخر على أنهم ليسوا بشرا.
وإن مقاربتي لموضوع تدمير داعش للآثار ليست من جانب ديني بقدر ما هي من جانب عقلي منطقي، والعقل والمنطق لا يتعارض أبدا مع الدين، بل يتكاملان ويعزز كل منهما الآخر، هذا ما اعتقده وأومن به، وما أؤمن به أيضا هو ضرورة قيامنا بمسؤوليتنا إزاء بناء مستقبل أفضل لأبنائنا، مستقبل لا يرتكز على العمران والمواصلات وتقنية المعلومات، بل على التنوير الفكري والثقافي بما يمكنهم من مواصلة العيش بأمن وسلام
أكرم مكناس