أذكر أني تأثرت بعمق بقصة الأسد كبير السن الذي يُرغم على ترك القطيع بعد أن تتم إزاحته عن منصبه من قبل أقوى أسود القطيع اليافعين. إن أعمار الأسود كبار السن يمكن أن تكون قصيرة جدا، وهي تفتقر في هذه المرحلة المتقدمة إلى دعم الأسود الأخرى في عملية الصيد، وبعضها ببساطة يشق طريقه حتى سفح الجبل، ويقيم عرينه على نتوء صخري حيث يمضي وقته مترقباً الفترة المتبقية له في هذه الحياة.
لكن لحسن حظنا، لدى مجتمعنا البشري موقفاً مختلفاً جداً تجاه “أسودنا المسنين”، فنحن نؤمن بأن أولئك الذين أمضوا حياتهم في العمل وتلبية متطلبات أسرهم لديهم الحق في الحصول على تقاعد كريم، وغالباً ما ينظر إلى كبار السن على أنهم الأعضاء الأكثر قيمة في المجتمع لما يتمتعون به من خبرة ومعرفة وحكمة. ولا بد من التنويه في هذا السياق بمبادرة جلالة الملك مؤخراً في ضمان منح الأولوية للأرامل المسنات بالحصول على السكن والخدمات.
إن منطق قطيع الأسود قد لا يكون وحشياً كما يبدو للوهلة الأولى، حيث أن تصرفات القطيع تلك لها أسباب منطقية، فيجب أن يكون القطيع متنقلاً، وأن يكون لديه ما يكفي من الطعام، وأن يبقى على قيد الحياة ككيان متماسك. والمطلوب من كل عضو فيه أن يكون منتجاً وفاعلاً في معركة البقاء.
مجتمعنا كذلك يخوض يوميا معركته من أجل البقاء وإن كان ذلك يجري بطريقة أقل وضوحاً، وكلما ارتفع عدد الأشخاص غير المنتجين والاتكاليين ازداد العبء على كاهل المجتمع ككل، وأصبح قابلاً للانفجار من الداخل في أي لحظة.
لقد شكَّل النفط على الدوام نعمة ونقمة على الخليج العربي في وقت واحد، فالنفط يمنحنا ثروة غير محدودة، لكنه جلب أيضاً قناعات مزيفة حول إمكانية تلبية متطلبات الحياة وربما تحقيق ثروة دون القيام بعمل ما، وقد أظهر الانخفاض الحاد الأخير في أسعار النفط مدى خطورة تلك القناعات، فالنفط هو نعمة فقط عندما يتم استثمارها بحكمة، وواحدة من أكثر أشكال الاستثمار حكمة هي تهيئة بنية تحتية تمكِّن الأجيال القادمة من الاستمرارية.
إن توفير فرص عمل للمواطنين ليس من واجبات الحكومة وحدها، ولكن هذا طريق ذو اتجاهين: شخص ليست على استعداد للعمل لا ينبغي أن يأخذ مكان شخص آخر لديه استعداد لبذل قصارى جهده في وظيفة ما، فالنحلة غير الراغبة في العمل ليس لها مكان في الخلية، والأسد صحيح الجسم لكنه كسول جداً في المطاردة ليس له مكان في القطيع.
وأود أن أذهب أبعد من ذلك لأقول إن واجب الحكومة ليس مجرد توفير فرص التوظيف، بل إن لديها مسؤولية تزويد الناس بالمهارات اللازمة لشغل الوظائف والتميز بها، وهذا يعني أن مخرجات التعليم يجب أن تواكب المهن التي يحتاجها سوق العمل في البحرين فضلاً عن التدريب على رأس العمل وغرس روح التنافس الإيجابي وشغف التطور الشخصي لتكون الكفاءة هي المعاير الوحيد لشغل الوظائف والاستمرار بها، وليس أية اعتبارات أخرى.
ويقع على عاتق الحكومة أيضاً مسؤولية أكثر صعوبة تتمثل في الترويج لثقافة العمل وغرس قيمه لدى أفراد المجتمع، بحيث تصبح انتاجيتنا كمواطنين أحد الركائز الأساسية لتقييمنا.
لقد كان هناك تركيز مؤخراً على تعليم مادة الوطنية في مدارس البحرين وتكريس الشعور بقيمة الوحدة الوطنية لدى الناشئة، وهذا أمر مهم جدا، ومع ذلك، هناك العديد من الأوجه التي يفسِّر بها الناس مفهوم الوطنية.
واحد من أشكال تفسير الوطنية المنتشرة والخطيرة في اقتصادياتنا النفطية هو ما يمكن أن أسميه “وطنية الاستحقاق”، ومعنى ذلك هو توقعي أو اعتقادي بأنه يجب على الحكومة أن توفر لي منزل ووظيفة ورعاية صحية مجانية وتعليم مجاني وغير ذلك من الامتيازات لا لشيء سوى لأني بحريني!.
هذا التوقع ليس خطأ في حد ذاته، ولكن لا ينبغي لشخص أن يعتقد أنه يجب أن يحظى بكل تلك الامتيازات لمجرد أنه بحريني، ولكن أحقتيه فيها تأتي توازيا مع مقدار ما يقدمه للبحرين.
إذا قضى بحريني 45 عاماً من عمره في خدمة وطنه، فهو قطعاً لديه كل الحق في أن يتوقع أنه سيحصل في نهاية المطاف على تقاعد كريم مريح، وليس مثل الأسد العجوز الذي يضطر أن يعيل نفسه وحيدا في أعلى جبل.
الاستحقاقات تبنى أساساً على مدى التفاني والبذل والعطاء في العمل والحياة، إنها لا تُبنى على ما يمكن أن تقوم به البحرين لأجلنا، ولكن على ما يمكننا نحن أن نقوم به لأجل البحرين.
أكرم مكناس